
أسادور، انفجار، 1970

أسادور، أقنعة، 1971

أسادور، دون عنوان، 1967

أسادور، انفجار، 1970
أسادور، أسادور بزديكيان الملقّب
بيروت، 12 آب/ أغسطس 1943
أقام أسادور معرضه الأوّل في بيروت من 6 إلى 18 آذار/ مارس 1964، السنة نفسها التي استقرّ خلالها في باريس وانتسب إلى «المدرسة الوطنيّة العليا للفنون الجميلة».
يدخل رسمه في الإطار الأرمني: بلاغيّة المشهد الداخلي ورمزيّته، كآبته والحدب عليه في ألم مقيم وتكراري يسنده أداء تقني باهر بات من الضروري الملازم للتعبير. وهو في الظاهر لا يتكلّم إلّا على مشاهد متصحّرة وعلى عوالم مفكّكة، لكن على درجة عالية من الضبط والتشدّد في التدقيق، وعند الحدود القصوى لقابليّة القراءة التي يمكن أن تستهوي الجمهور الواسع، بحيث لا يعود بحاجة إلى سهولة المواضيع أو إلى تنويع في اختيارها، بل يعتمد بنيان عالَم داخلي انطلاقاً من عناصر رسم تأخذ مكانها تدريجيّاً.
هندسة العالّم لديه يضرب فيها الخلل لتفسح في المجال لأرض لا جدوى منها وتافهة، ذات غائيّة لا ـ لاهوتيّة، لكونها بلا خلاص، إلّا، ربّما، عبر هستيريا الدِقّة التقنيّة كنوع من ردم هوّة الكارثة، دون معرفة إن كانت واقعة أمامنا أم وراءنا. أنّه يجول وفي يده مسطرة وبركار، يذرع بضعة كوابيس مُجَدْوَلة ومصنَّعة، بحيث تفقد طابعها الخاص لتصبح تمارين وتنويعات على الطابع الكابوسي للنقش ولعالَم يثبّته فعل التصوير والرسم في لقطة لا فكاك منها.
ثم أنّ ما يضيف المسافة إلى ذلك هو الدِقّة والشعور بصحّة القياس، ببيان مَسْح طوﭘﻮغرافي يتطوّر الهمّ التدقيقي فيه بقدر غياب شخصيّات مشمولين بالإخراج المشهدي. ذلك أنّ ما من مشهد على الاطلاق يجري إخراجه بالمعنى المقصود في الكلام على ترتيب مائدة أو مسرح. فالمشهد مهجور تماماً، وإذا كان مُشاهِد النقش مغتاظا لاستبعاده، فذلك أنّه لا يجد ما يعنيه، باستثناء الكمال التقني للخطوط.
حاول بزديكيان في زيتيّاته التغلّب على مسألة المهارة الباهرة في تغطية المساحات الكبيرة باستعمال مرَشّة الضخّ الهوائي، لكن أيضاً باللجوء إلى تقنيّة رائعة تعتمد طبقات اللون، جاعلة اللون يغطّي المساحة مثل حِمم ﭘﻮﻣﭙﻴﻲ Pompéi ذهنيّة.
كيف يمكن التوصّل إلى الفنّ؟ سؤال أجاب أسادور عنه كتقني يتوخّى الاتقان، مقدِّماً الحلول في تنافس مع الفنّان. عمل حِرَفي وآلي على النفس قوامه أن يرى في نفسه أداة ضبط الدِقَّة، الأمر الذي يؤول إلى نوع من تقديم الاستمتاع البائس إلى متعة التفكير بالخطيئة، وإلى أن يجعل من الرسم التصوير البياني الواقي من تصحّر داخلي.
تلقّى أسادور بعض الدروس في الرسم عند غيراغوسيان. لم يكن في استطاعة هذا الأخير، مع اعترافه بموهبة تلميذه، أن يمضي قُدُماً دون أن يجرّ الشاب نحو ما كان يخصّه شخصيّاً: التعبير عن الأوساط الشعبيّة، الفقر، التشرّد وخصوصاً، الطموح إلى الوصول إلى المجتمع البيروتي الذي قد يشتري لوحاته. كان الشابّ يملك ذائقة الرسم، التصوير، ويجهد لإيجاد أثر ثقافيّ له بينما لم يكن لديه من خيار عدا ربطه بممارسة.
كان عليه أن يعي بسرعة عدم ملاءمة الوسائل التقنيّة الموضوعة تحت تَصَرُّفه في لبنان، وحتّى تلك التي كان يظنّ أنّه سيجدها في مكان آخر عندما انتسب، وهو تقريباً لا يزال طفلاً، إلى مدرسة ABC لتعليم الرسم بالمراسلة في باريس. واستطاع أن يعي كذلك مدى عدم التلاؤم الاجتماعي بين البيئة الأرمنيّة والبيئة اللبنانيّة التي كان يسعى إلى بلوغها. هذا لا يتعلّق، في نظره آنذاك، برفض المخطَّط الذي يقترحه غيراغوسيان، بل بشيء آخر يريده دون أن يعرفه تماماً بعد، عدا أنّ غيراغوسيان نفسه لم يكن قد توصّل، في أواسط الستّينيّات، إلى الشهرة التي ستكون له يوماً.
انتسب أسادور إلى محترَف غوﭬﺪر Guvder، ثمّ إلى المعهد الثقافي الإيطالي في بيروت، حيث راح يدرس اللغة الإيطاليّة ويتابع دروس الرسّام جان خليفة. وبفوزه بالمرتبة الأولى في مسابقة نهاية العام حصل على منحة دراسيّة لثلاثة أشهر في إيطاليا. كان هذا بالنسبة إليه بداية الانفصال الضروري. ليس بمعنى الارتقاء الاجتماعي وَفقاً للرواية الاعتياديّة لدى أرمن الدياﺳﭙﻮرا، الذين يصيبون النجاح بالعمل الدؤوب. ترتبط دوافعه بقرف مديد وحقيقي، أوّلاً ممّا سيكون عليه في حال بقائه في لبنان، لكن كذلك بتطلّب وبطموح يجعلان باريس تبدو له كـمَعْلَم وحيد للاستدلال. باريس، المكان الآخر الشاعري الوحيد المتاح للبنانيّين، يسهل بلوغه، ويظلّ في متناول اليد. إنّ المقاربة في ضوء علم الاجتماع ليست الجواب الوحيد عن مسألة مركّبة تعالج مجمل سؤال الهويّة الأرمنيّة، لكن أيضاً السؤال الذي يطرحه المنفى، والتساؤل حول تاريخ الفنّ والفنّ المعاصر، وطريقة الإجابة عن هذه الأسئلة مع إبقاء الاسئلة والأجوبة مفتوحة قدر الامكان. اختار أسادور، وهو الآتي من جماعة متمنِّعة عن الاندماج، أن يستقرّ في المنفى بوصفه أرض اللاقرار الذي لا مَرَدّ له والخيار المؤجّل دائماً.
طرح أسادور مشكليّة فنّ الرسم اللبناني وحلّها، على مستواها، مع التصميم على الذهاب أبعد من اللعبة الثقافيّة الأرمنيّة، بالتالي السوسيوطائفيّة، وأبعد من اللعبة الاجتماعيّة اللبنانيّة، مأخوذة كإمكانيّة انتشار الفنّان والعمل الفنّي، وكان يرفضها واعياً حدودها الضيّقة.
استندت استراتيجياه الباريسيّة إلى بيروت بدءاً ببعض المعارض. إلّا أنّ احتلاله مكانه في أوساط فنّ النقش أي الغراﭬﻮر gravure الباريسي لم يستند إلى هذه المعارض بقدر استناده إلى دخول تدريجي إلى السوق، ابتداء بصالة العرض لاﭘﻮشاد La Pochade الواقعة في جادّة سان ـ جرمان ثمّ بتوسيع علاقاته ومبيعاته.
تَكيّف عالمه الذهني وفق حال باريس الستّينيّات ومطلع السبعينيّات. ويعود إلى هذه الفترة بدء عمل آليّات القطيعة مع لبنان. لم تكن بيروت بالنسبة إليه آنذاك إلّا موضع رفض وذكرى غير سارّة.
تَحمِلنا إقامته الأولى في إيطاليا سنة 1962 على التساؤل كيف فَهِم رسّام أرمني فنّ النهضة الإيطالي. ربّما كما فهمه الآباء المِخيتاريّون المقيمون في البندقيّة Venise، الذين لم تكن إيطاليا بالنسبة إليهم مكان لجوء وحسْب، بل وسيلة لفَهْم أرمينيا وجعل الآخرين يفهمونها.
لم تكن أرمينيا الأسطوريّة بالنسبة إليهم أكثر حضوراً من إيطاليا الحقيقيّة، إنّما كانت تلك البقاع المفتوحة لكلّ الرياح مثل جزيرة، وكانت جزيرتهم تذكيراً بالبحر الفسيح كما بالانزواء الشاقّ القسري. كان المخيتاريّون مكرّسين لتلقين طلّاب المدارس الإكليريكيّة لاهوت القدّيس غريغوريوس المنوِّر وطقسه، كضمانة للهويّة، مع اهتمامهم بحفظ التواصل مع الجوار اللاتيني حيث لا يأخذ الفنّ على عاتقه وجوب تسكين شقاء العالَم، بل يحاول الاسهام في تجميل العبادة وفي سموّ النفس.
لم يكن هناك فنّانون في جزيرة سان لازارو التابعة للبندقيّة، حيث كان الأرمن قد استقرّوا، لأنّ اللوحات الإيطاليّة تنادي، بكلّ الطُرُق الممكنة، بأن تشكيل كلّ رسالة وكلّ دلالة كان قد استنفد إمكاناته ولم يعد من المعقول منافسة مثل هذه المهارة الباهرة.
تكمن إحدى الخاصّيّات الرئيسيّة للفنّ الأرمني في انغلاقه على نفسه، على الرغم من الانفتاح الضروري على العالم الخارجي، ليس بطريقة البحث والاستيعاب وحسْب، بل كذلك بطريقة قيام عدد من الرسّامين في هذا الفنّ باستنساخ بعضهم بعضاً، ولا غاية تدفعهم إلى ذلك إلّا وضوح ما يبدو لهم تجربة سابقة ومعاصِرة. ليس لأرمينيا من مصلحة إلّا مُعاشة كترحال ضدّ ـ منفى أكثر من كونها كمنفى وابتعاد. فمعنى مسقط الرأس محمَّل بكافّة الدلالات غير المرتبطة بضرورة البقاء وحسْب، بل باستباق دائم لما لا سبيل إلى إصلاحه بعدم الانشغال إلّا بالشأن اليومي، وباستنبات الأرض، على نحوٍ ما، بدل أن يحفر المرء فيها قبره. إذ إنّ المنفى يزيح هاتين العلاقتين بمسقط الرأس، الحقل والقبر. فالأرمني يضيف إليهما طاقة مستشرسة ليست جسديّة فقط ويتعلّق بالحاجة المطلقة إلى البقاء، وإلى نقل الإرث، وليس إلى التخزين وحسب.
استخلص أسادور في إيطاليا درس التشدّد في ضبط الرسم ودرس تفاعلات المؤثّرات. وأجبره اختياره فنّ النقش على تجذير مسألة الشكل، وكذلك على الانفتاح على معاصرة لم تعد تخصّ الوسط الاجتماعي الأوّل دون سواه – أرمن بيروت ومن ثمّ جمهور الجماعات الأخرى. كان قد حلّل حالات سابقيه، غوﭬﺪر وغيراغوسيان وجان خليفة، كما حالات الفنّانين اللبنانيّين من سنوات الخمسينيّات والستّينيّات.
وكـرّر بدوره التساؤل القديم المتكرّر حول الهويّة وطريقة طرح مسألتها، من شجن المنفى الأرمني إلى شقاء المنفى اللبناني، في كيفيّة رؤية الذات وعيشها كآلة منزوعة الشخصيّة لكن لها حضورها. لم يكن يرسم عالَماً آليّاً، بل صورة هذا العالَم المسقَطة، ومفاعيل التركيب والتفكيك في كافّة الأوضاع الممكنة: من التكرار الذهني إلى العمارة الباردة ومن الاستمتاع البائس إلى التجمّد الجليدي النهائي. هياكل عَظْميّة للزمن الهازل، مع إمعان في تَولّع بالمقايسة لا يهدف إلى تعليم أو تذكير، بل إلى تظهير تشريح منهَك وعُصابي لكافّة العناصر المحوَّلة إلى رموز، عند مفصل بين الإشارة والتفعيل. وهذا الطابع البريدي البريطاني الذي يحمل رسم الملكة ﭬﻜﺘﻮريا، أيكون انتصاراً لهواية جمع الطوابع، أم ذكرى رحلة ما، أو لعلّ الهواية تكون بديلاً للرحلة؟ اجتياز مسار حياة بالملّمتر، إيقاع الوقت مفرغاً من الزمن، ومرتبطاً قبل أيّ شيء بنزع الهويّة الثقافيّة.
إن بدا أنّ أسادور كان يرمي إلى شيء فهو ليس العودة إلى الأرض المفقودة بقدر كونه تحضيراً لمسحٍ عقاري غير منتظَر، في يقين اليأس، هناك حيث للنرجسيّة نصيب يتعلّق بالواقع بواسطة المبالغة في الدقّة.
في إمكاننا أن نقول في ذلك ما كان يقوله عن عزلته وعن شقائه هذا الفنّان الموهوب والخجول والفاتح المظفَّر أمام أوروﭘﺎ، الذي كان مضطرّاً وراغباً في أن يكسب عيشه من فنّه ويشعر بوجوب الانتقال إلى الأمور الجديّة.
رهان الرسم الزيتي ينطوي على توتّر ما، على تصلّب تقتضيه المهارة التقنيّة الباهرة؛ إنّه طريقة للوصول سريعاً إلى الفضاء المسطّح الذي ينبغي تلوينه، وإلى تركيب إشارات الشقاء، عبارة عن إشاريّة مطلسمة ذات مفردات شخصيّة يرى فيها الـمُشاهِد أسلَبةً أَغلق عليه فَهْمُها. فأسادور يبني في المهارة الباهرة نماذج مختزَلة، حيث يسيطر على مجمل فضاء الشخصيّات والإشارات. وتُمكِّنه إسقاطات الذات من تعطيل الاستخفاف بجماليّةٍ للضرورة ومن تَجنُّبِ هذا الاستخفاف. غير أنّه لا ينجح دائماً في الافلات من تكرار الكارثة والانحباس مجدَّداً، وفي تَجَنّبِ هذا الوهن العُصابي الذي يصيب النقّاش، الحارث بلا أرض خصبة، مواجهاً اللوحة الكبيرة المحكومة بحمل الإشارات التي تتراءى مثل إخفاق المعنى، اللوحة المحروقة بالحمض، المسوَّدة بألوان كآبةٍ مفهومةٍ كحِداد الألوان.
والحقيقة، لا يكفّ أسادور عن ترداد أنّ العالَم بلا جدوى؛ وتميل أعماله كلّها إلى هذا الاثبات. غير أنّ ألم المنفى وشقاءه حالا، عنده، دون التطيّب بالتقنيّة، بينما كان من الضروري، لدى العديد من الرسّامين الآخرين، إعطاء الأولويّة لتَعلُّم تسكين هذا الألم بطمأنة النفس، عن طريق المستوى المقبول من حِرَفيّة المشابَهة والتصوير.
كان يستحيل عليهم أن يمضوا قُدُماً في مجتمعات كان فقدان التشابه فيها بين الرسم وموضوعه يَظهر كفقدان للصورة وللمرآة وللهويّة. فبفقدان المعاني، كما بفقدان كلّ صورة، أين للفنّان أن يعكس وجهه أن لم يكن في جنون حرمانه من مرجع يهتدي به؟ هنا كان يكمن بالفعل أشدّ ما يُخشى من التهديد: العودة إلى المنفى بلا مرآة وبلا صورة. وإلى أيّ منفى، بعد، مع فقدان كلّ شيء؟
لقد توصّل أسادور إلى لغة ذات إشارة مستقلّة، لكنّ الأكثر إدهاشاً لديه – بلا مقاربة أدبيّة وبلا رفض تشكيلي – هو هذا العالَم من الإشارات الذي ينطوي على الدلالة الوحيدة التي أفضى بها الفنّان. إنّه لا يُلام على غياب الدلالة ولا على خطر الوقوع في الهذيان أو الهذر، إنّما يُلام على استحالة وجود معنى مفتوح. أمِنَ الضروري أن يُقام تعارض بين المعنى المفتوح والدلالة المغلقة؟ لا يتعلّق الأمر هنا بقراءة واضحة ومباشرة لشيفرة شيء يراد إبلاغه، أو بتبرير معنى يُفترَض أن يقوم بذاته، وفْق منطق ما يشغّله كرسم فنّي.
بنى أسادور عالمه على نسق رمزي يخصّه، دفع ضرورته إلى حدودها القصوى. والسؤال الذي يجدر طرحه في شأنه هو: لماذا يبدو هذا العالَم قائماً بذاته كبناء في الرسم؟ ذلك أنّه أدرك أن اللوحة تبنى من عناصر تخصً الرسم، وبالتالي من مفردات ومن رابط ذهني شخصي، من رؤيا. وهكذا استطاع، متخلّصاً بممارسة النقش من البلاغة للبلاغة، أن يتماسك حول اختصاصه وتقنيّته. فالرسم الزيتي واللوحة كانا قد عوّدا الكثير الكثير من الرسّامين اللبنانيّين على التساهل إزاء الغموض، نظراً إلى طواعية الزيت وقدرته على تلبية استسهالات هي، في معظمها، عبارة عن نزوع مُضمَر إلى التصوير. كان في ذلك ثرثرة أكثر ممّا فيه من شغل.
أسادور بزديكيان هذا الافساد الرهيب لهندسة العالَم، ربّما لكونها لا تنصفه. الأرض كوكب عبثي وتافه، هندسة للفوضى، مخلوقة بعناصر من الهندسة ومن البلاغة مستخلصة من تاريخ الهندسة في عصر النهضة. تَصنّع يَشُلّه دُوار الهندسة أكثر من كونه يساعد على الهروب في وَهْم عالَم خرج عن مداره في صورة الصلبوت، والجسد تحت التعذيب. كان يتردّد لديه الصدى البعيد لأبحاث رياضيّات عصر النهضة، كإعطاء شكل لتطلّب نظام ما للعالَم.
إنّه ينفّذ فنّاً دينيّاً بكلّ ما ينطوي عليه المخزون الأرمني دون اللاهوت، وباللاهوت دون البحث في نهاية الكون، وبالبحث في نهاية الكون دون الفلسفة الماورائيّة. لجوؤه هذا إلى الغايات الأخيرة يتمّ دون أن يكون في هذه الأخيرة إسناد للدِين، إنّما هي إسناد لدِين آخر، فنّ الرسم باعتباره الطقس الوحيد، وممارسة الإيمان الوحيدة، والغائيّة الوحيدة.
هكذا ينبغي أن نفهم الأثر الشفّاف المتعرّج، حيث المعنى الظاهري والدلالة الحقيقيّة في نظر الرسّام لا يرتبطان في أغلب الأحيان إلّا بنحوٍ من مواجهة معنى الكلمات. أمّا معنى العالَم، مقصَدُه، فيراه بزديكيان مُحوَّلاً عن موضوع هذه الكلمات. يحضر رسمه كما ليقول كلّ هذه المفارقة: الضباب ومنتهى الدِقَّة في أعمال النقش بالمنقاش أو بالحمض، أو الـ«لستُ آتياً من حيث أنا آت، إنّني آتٍ من مكان آخر. لستُ آتياً من حيث تظنّون بل من مكان أفضل». هكذا هي المفارقة التي تقوم مقام البصر.
يمرّ تأليف اللوحة، بالنسبة إلى قسم كبير من الفنّانين، عبر فكفكة أجزائها، فتكون بالضبط نتاج هذا التفكيك المعاد تأليفه. يبدو كلّ شيء في هجران للواقع، وتظهر العناصر التي يُعمَل على دمجها في وحدة طافية مبعثرة على السطح، وكلّ منها فاغر فاه يتساءل ما الذي جاء به إلى هناك. وهناك أيضاً تركيب انفعال قوي لا يفضل منه إلّا تثبيته في مكانه. والحال، الانفعالات كالفراشات التي تموت فور تثبيتها.
يحاول أسادور الذهاب أبعد من ذلك في استكشاف مجال الرسم أو مجال التخطيط البياني، وهو في المقام الأوّل استكشاف لمجال التقنيّة.، لكن بدءاً من لحظة معيّنة، إذ تكون التقنية قد بلغت أقصى إمكانيّاتها في الكفاءة العالية، وإذ تكون قد باتت أكثر تعقيداً باللجوء إلى كافّة الوسائل المتوفّرة، يتوقّف عملها في جهاز توقيت متجمِّد.
ها أنّ كافّة قِطَع الساعة جاهزة لكنّ الثواني لا تمرّ، وذلك عائد، على الأرجح، إلى مقارنة وإلى ترحيل داخلي بين الدِقَّة وضبط أدقّ التفاصيل التي يريد تثبيتها في مكانها. حتّى أنّه لو شاء الرجوع صعداً في الزمن لما جاءت الأمور على يده مختلفة.
لا يكفي جمع أفضل تقنيّي فنّ الرسم وأفضل مخطِّط رسوم بيانيّة للحصول على فنّان أفضل. والذائقة لا تستسيغ إخراج مشهديّة هذه العطالة المهجورة. يحضر في المشهد شيء مصطنع عندما يصبح من المتعذّر على الرسم التقني، الذي أضفيت عليه مسحة من الشاعريّة والذي لا يتوصّل إلى ملامسة مادّة داخليّة، أن يظهر إلّا كمهارة باهرة متباهية بالإخراج المشهدي الذي يخصّها.
أسادور لا يرسم، بل يُخرِج مشهديّة رسمه. إنّه في حال وَحْديّة أنا الفنّان التي ليست ممارسة العُصاب بل نوع من الحِرَفيّة الدائمة يزاولها تبريراً وحيداً لنفسه. قلق التحوّل الماسخ، اضطراب الأسلوب البرّاق، عند أسادور، يَغُمّ دائماً بغياب المرجع. ما يصمّه، إنْ هو صرامة الروح، قاعدة ليست حتّى بقاعدة إنّما صرامة. ثمّ هناك كذلك غياب ثقة ممكنة في استكشاف جديد ما بالمغامرة خارج نطاق المراجع المعروفة.
كيفيّة خوض المغامرة، خارج نطاق المراجع المعروفة، تبقى النقطة الأساسيّة والسؤال الساخن في تاريخ الفنّ اللبناني، الذي يجد الحلّ الرئيس باتّخاذ الفوارق ملاذاً. كيف السبيل إلى استكشاف الأشكال، وكيف إظهار مدى الاستكشاف الممكن دون ثقافة وفي الوقت نفسه دون روح نقديّة على درجة من الحدّة تكفي للتنبيش في النفس عن كامل تفاعل المؤثّرات التي ليس من شأنها إلّا تكرار الذاكرة البصريّة؟ إلّا أنّ الأمر لا يتقدّم أبداً بما يكفي في هذا الصدد. لم يشأ أحد أبداً أن يجعلنا نُصدِّق أنّ حديقة على هذه الدرجة من الاصطناع ينبغي أن تكون أكثر تمثيلاً للطبيعة. وإذا كان الأمر يتعلّق بالتعفّن، فلا تعفّن إلّا عبر المزيد من الصرامة والتخطيطيّة.
وتشيع في ذلك حالة خِصاء مجمّد حيث الحنوّ الممكن الوحيد لا يمكن أن يصدر إلّا عن الفولاذ المصقول.
يتصوّر أسادور الفنّ خليطاً من تأنّقٍ في الملبس ونفيٍ داخلي يُفترَض ألّا يكون إلّا الانعكاس الأمين للطموح الاجتماعي، في مجتمع يلقى منه الازدراء. ويزداد ازدراؤه لهذا المجتمع بقدر كونه يريد الارتقاء فيه وأن يضمن لنفسه عالَماً غير مغرق في البلادة بحيث يتقبّله في وضعه كفنّان وفي الامكانيّات الماليّة التي توفّر له العيش من هذا الوضع. سوء التفاهم هنا يماثل مجموع حالات سوء التفاهم والحذر المتبادل الذي يبلغ حدّ الأمل الكاذب واليأس المصطنَع من الوصول إلى هذه الثروة التي يُفترَض أنّها تطمئنه.
يتحوّل الرسم لديه إلى نموذج لبلاغة الفنّ العظيم، هذه المهارة الإيطاليّة المحض في تجهيز تصميم مشهدي للذات، حيث تبدو العناصر المكوِّنة فيه، حتّى لو انقلبت إلى شغل حِرَفي وتصنيع، مأخوذة من لغة قديمة يُفترَض أن يتعارف فيها جميعُ الهواة ذوي الذائقة الرفيعة.
هناك في لبنان قراءة طائفيّة للأشكال، موفِّرةً الأرض الحسّاسة لتقويمها. إن كان عبّود روميّاً أرثوذكسيّاً، وعوّاد مارونيّاً، وأسادور أرمنيّاً كاثوليكيّاً، فهذا يعني أموراً كثيرة هي بالتأكيد أقلّ ارتباطاً بالتقويم السياسي الأوّلي منها بمجمل التربة التاريخيّة والاجتماعيّة والعائليّة.
إطار الشهوانيّة أو الإيحاء الجنسي عند أسادور اصطلاحي إلى أقصى الحدود، اليابان، كوريا، طقوس السادو مازوشيّة، هذه السلعة الرائجة في جادّة سان ـ جرمان أواخر الستّينيّات. ومع ذلك كان قد حاول المناوبة بموضوع آخر. وستكون نماذجه الأولى من الرسّامين الأرمن المقيمين في باريس في الأربعينيّات والخمسينيّات: جانسن وكارزو. كان يظنّ أنّه واجد في إثرهم كلّ ما يخبِّئه له العيش ورخاؤه.
ويجب ألّا يغيب عنّا أنّ الرجيح الزمني عند أسادور يحمل كذلك حاصل جمع التباينات، بينما هذه الأمانة الممكنة وهذا التركيب المدفوع إلى حدِّه الأقصى لن يفيداه إلّا في أن يقول بطريقة أوضح كلّ ما كان يريد كتمانه، الأمر الذي كان على هذا الطموح تذليله بإظهاره، هذه الحالة من غياب التناسق.
هذا الرابط الحيوي يتزعزع مع الثقافة، الطريقة المتَّبَعة من قِبل القسوة والخنجر، تحت ستار من الفنّ والمقاسات الدقيقة، لاجتياح الحقول البائسة من الأحلام والرغبات.
البنت الصغيرة مع الدولاب هي الحلم الكابوسي نفسه لكافّة الصغيرات مع الدولاب.
انتفاء إمكانيّة أن يتوصّل المرء إلى الحقيقة كاملة من أجله،كحقيقة يعيشها بملئها ويقف معها بقَدَم راسخة.
لا سبيل إلى جمع عناصر الحقيقة أبداً، وعندما يتخيّل أنّ جمعها ممكن، لا يكون ما لديه إلّا أطراف متباينة لعمل لا يكفي فيه حسن الطويّة في القسوة الممكنة لستر كلّ خلفيّات التمذهب الجمالي.
إنّه يحاول أن يستقي عناصر هذا التمذهب الجمالي من حيث يُعلِّمه إيّاه الحسّ المشترَك، تماماً مثل تَعلُّم تصديق حكايات الحُبّ الشهيرة والقيام بشرحها لك، بحيث يُعاش الحُبّ مثلما يتعيّن على مَلاكٍ مساعِدٍ في قضيّة رياضيّات أن يكون عالَمُه في آن العمليّةَ الحسابيّة الأخيرة ونقطةَ التطبيق المُذعِن.
هذا النقش المهندَس والبارد الذي تَصُبّ فيه دمى مخلَّعة يُرتَجى لها في الأحلام شيء من التعطّف، ولو كمسَوَّدة أولى.
تبدو الخيبات في القسوة والفظاظة محسوبة بدقّة. كالعادة يبدو الخطّ شاعراً بأنّه مستعمَل، وهو بالتالي يكرِّر خيانة مقصده وقوله.
تكمن مشكلة أسادور الحقيقيّة في كونه لم يجرؤ أبداً أن يذهب أبعد من الذوق السليم في فنّ الرسم، وأن يعبِّر في فنّ النقش عن خيبته، إلّا ببلاغة أدبيّة أو خطّيّة، وعن قسوته، إلّا بمجموعة دمى. فالجوهري يكون بين الكائنات، أي أنّ السكتات والكلمات لا تمرّ إلّا بواسطة اللون، وفي هذه الحالة لا فائدة ترتجى حصراً من التلوين الشاحب عدا التلوين.
ويكون من شأن الثقافة التقنيّة والخاصّة بالرسم أن تُجفِّف القول بمبالغتها في الدِقَّة وعُصابها بقدر كون المسح الدقيق يَستبعِد كلّ ما ليس بتطبيق تقني.
كان يعتقد دائماً أنّ ممارسة هذا القحط التقني كافية وحدها لإيصال القول لأنّها تُصوِّره على أفضل وجه. ويجد المرء نفسه أمام وضع باتت البلاغة الباهرة للممارسة التقنيّة فيه لا تندمج في الكلّ التعبيري.
ويقوده هذا القحط بكلفته الزائدة إلى استبعاد كلّ شيء. فهو يجد نفسه مرآةً أمام الناظر يسأله تكراراً، ألَمْ أُحسِنْ صُنعاً؟
هذا السؤال وهذا البحث هما بالفعل ما يستبعد الناظر في المرآة. فهو يُكثِر في وصفه من إدخال تحسينات وتدقيقات بحيث تصبح مسوخاً حتّى لضروب التصنّع. ويتكرّر دوماً السؤال القديم: كيف ترسم الفراغ بالمليء حتّى الطفح؟ هكذا سيكون قد لامس، في التوالي التاريخي للمؤثِّرات فيه، الصدمة الأولى التي أصابته في مواجهة مجمل تقاليد الفنّ الإيطالي، أي كيف يستطيع حتّى أن يرى إليه وأن يفقهه، كيف يندمج فيه.
وتبقى تقاليد الفنّ، في نظره، إيطاليّة في الأساس ولا تظهر باريس له إلّا كالمركز الاجتماعي والضروري للحداثة، إلّا إذا شئنا بالفعل أن نجد هناك روحيّة ما تجعل الكلمة الفصل تتّهم الكلمات كلّها بالخيانة، بحيث يفرّ القاموس، بعد الشروح، مولّياً الأدبار.
لا شيء يضاهي هذه المفردات المختزَلة والصوت العظمي لحنجرة حيث أدّى حمض النقش إلى بثّ المناعة ضدّ السموم في كلّ شيء.
تأثير إيطاليا هذا كبير الأهمّيّة، كنظرة أولى تُلقى على تقاليد فنّ الرسم. عليه في حقيقة الأمر أن يتدبّر حالة الوَجْد الجمالي لديه، وهذا يعيدنا إلى المسألة نفسها: أين الوجد بينما لا يُرى سوى الإضاءة التي ولّدته؟
هو دراسة في عِلم إناسة مثبت ومتجمِّد مسبّقاً، حول الذائقة، والاحساس، والحكم الجمالي، وأعمق من ذلك حول غموض الهدف الذي ينطوي عليه العُصاب الضروري.
ما يريد أسادور صونه هو أيضاً الصدمة الأولى أمام فنّ الرسم الإيطالي هذا. حتّى لو كان لا يفقهه إلّا كفنّ إنتاج، عندما لا يطال عقلُه إلّا الحدود.
تقع حقيقة الفنّ، بالتأكيد، في الجانب الأخر من الليل،، عندما يتخطّى القسم الأكثر تعتيماً من العالَم ضرورة التعبير.
يوجد عند أسادور شقاء ما بعد الرومنطيقيّة، ذلك الذي يتعلّق بالخيبة من عالَم ينبغي، على الرغم من كلّ شيء، الاشارة إلى ضيقه. إنّه عالَم تمتدّ جغرافيّته من شارع لاغرونِل حتّى شارع دراغون ومن جادّة سان جِرمان حتّى شارع ديفور في باريس.
إنّها كذلك خيبة من الموهبة الممكنة. فالكلام على الأصل استسهال، بينما يكون بالأحرى متعلِّقاً بممارسة النسيج العصبي وردّ فعله على هذا العالَم.
تزعق الطفولة الأرمنيّة لديه بقدر الطموح إلى مغادرتها.
يقدّم أسادور جماليّة للشجن الذي لاتعوزه الشاعريّة وحنين لا يُطرح الملحق به من مواضيع كموضوع محدَّد.
هل من الممكن عمل رسم يحمله الشجن وحده كميزة جماليّة؟ على سبيل الجمع بين فنّ الرسم والحياة مثل الجمع بين ورق الرسم والمناشف. تَحِلّ دائماً لحظة يتعيّن فيها الفرز.

أسادور في الوسط، باريس، 1968

أسادور إلى أقصى اليمين، المعهد الثقافي الإيطالي، بيروت، 1963

محترف أسادور، باريس

أسادور في الوسط، باريس، 1968