top of page

بعلبكي، عبد الحميد

العديسة (لبنان)، 1940 - 2013

كان عبد الحميد بعلبكي واحداً من طلّاب الدفعة الأولى من خرّيجي «معهد الفنون الجميلة» التابع للجامعة اللبنانيّة الذي تأسّس سنة 1966. مثّلت هذه الدفعة التوزّع الاجتماعي الثقافي الخاصّ بالمجتمع اللبناني. كان «المعهد»، بالاختلاف عن «الأكاديميّة» والجامعة الأميركيّة والدروس الخاصّة (سِير، غوﭬﺪر)، يضمّ جنباً إلى جنب طلّاباً من كافّة الاوساط والتناقضات.

كان بعلبكي في الجامعة اللبنانيّة محسوباً ضمن الخطّ المتشكّل من الذين سيدعمهم عارف الريّس في مطالبهم المتعلِّقة بالهويّة. كانت المسألة التي تطرحها هذه الأخيرة، بالنسبة إلى معظم أساتذة الفنّ في تلك الفترة، مسألة اجتماعية ثقافية من حيث الجوهر، حتّى لو أنهم كانوا يعلنون أن لا صحّة لذلك. كان لكلّ منهم نظريّته في المسألة. ومرّ بين سنتي 1966 و1975 عقد من تجربة مشترَكة لرسّامين جاؤوا من الأوساط الاكثر اختلافاً وكانت تحدوهم طموحات من الأكثر تعارضاً.

تناول بعلبكي المسألة على نحو رمزي. تُمثِّل إحدى لوحاته، التي تُعبِّر على أفضل وجه عن رسم ذي موضوع مميَّز، تُمثِّل صورة ميت تَحمِل وشاحاً أسود فيبدو وكأنّه يعلن الحِداد على الرسم التمثيلي وعلى أساليب الإيهاميّة بالمشابهة فيه. يبدو الرسّام هنا متّخذاً مسافة على شيء من المحاكاة الساخرة، وكانّه يودِّع فترة شبابه، أو، بالأحرى، ما كان سيكون دون الرسم: صورة فتى اختفى. لكنّه كان كذلك من السذاجة بحيث يظنّ أنّ الأمور باتت في اليد بمجّرد عقد النيّة.

إلّا أن التوصّل إلى رسم مشهد أكثر تركيباً لن يلبث أن يظهر على درجة أعلى من الصعوبة، في التأرجح بين الفولكلور وصعوبة تَمثُّلٍ تامّ للتصوير الغربي بهدف إبقاء هذا الأخير على مسافة. كان ذلك موضوع الرهان على استخدام المرويّات والأساطير الشعبيّة في «التجهيز الآلي»، أي في الاخراج المشهدي للوحة. لم يكن تأثّره بمدرسة الرسم المصريّة ليسمح له بتناول مواضيع لبنانيّة. ويقال الشيء نفسه عن إمكانيّة تَعرُّف الهويّة الذي كان يمكن أن تتيحه دروس عارف الريّس. كان هذا الأخير، آنذاك، قد نفّذ رﭘﻮرتاجاً بالرسم عن مواخير بيروت كان يرى فيه لائحة اتّهام ضدّ نفاق المجتمع. بدا الموضوع جديداً في نيّته أن يذهب إلى ما يتخطّى طريقة معالجته ليتكلّم على واقع قريب وعلى كلّ ما يعنيه. كان في ذلك مشروع رسم بالابتعاد عن العرف المتّبع وباتّخاذ التضادّ مع العرف منطلَقاً.

هذه المصاعب في معالجة الواقع وتشغيل آليّات التمثيل قادت بعلبكي إلى لوحات استكشف فيها الخيالي في الرسم الشعبي انطلاقاً من الاخراج المشهدي للاستعارة المجازيّة وترجمتها إلى عناصر بصريّة. وتبيّن أنّ آليّات تكوين الواقع هذه، التي كانت سلسلة من المعالجات تحاول تحقيقها عبثاً، غير جديرة بالتعبير عن الواقع إلّا عبر نتفات مبعثرة منه.

أمضى بعلبكي، إثر نيله منحة دراسيّة من الحكومة اللبنانيّة، ثلاث سنوات في باريس، بين أقصى درجات الارتباك ورفض أصمّ، مستعيناً بالبعض من نقاط الاستدلال، مثل الفنّ العربي. درس لدى روهنر Rohner في مدرسة الفنون التزيينيّة. ولمّا كان لا يُحسن قراءة الفرنسيّة ولا يتكلّمها جيّداً، كان يقوم في باريس بجولات طويلة سيراً على الأقدام، مع نقاط استدلال قليلة من الذاكرة البصريّة، وكان يحفظ غيباً كلّ صور الشوارع دون أن يكون قادراً على تسمية واحد منها.

كانت العلاقة بالواقع لديه متّصلة بتمثيل ساخر مشغول ببطء ويزداد تركيباً مع أنّ مواضيعه في المنطلق لم تكن في نظره هو نفسه بديهيّة. فهو كجنوبي كان قد جاء العاصمة من خارج تقاليد الممارسة المدينيّة. كان عليه إذاً أن يستكشفها وأن يرسمها في الوقت نفسه، مع كون اغتناء الاستكشاف لا يسير دائماً بموازاة اغتناء التعبير، لأنّه كان يصطدم برفضه العصابي لـ«الكمال»، للانحباس في الشكل. بالفعل، كانت نادرة تلك الأشكال التي كان في استطاعة بعلبكي أن يشتغل عليها. ولم يكن يلجأ إلى تلك التي كانت، على المستوى الثقافي، ذات الأثر الأبلغ في إحساسه، مبتعداً عن  المعطيات التصويريّة التي كان رفيق شرف، في المقابل، يغوص فيها ليتكلّم عليها على نحوٍ شخصي حتّى لو تعيّن عليه أن يستخدم الفنّ الشعبي بكلّ أشكاله. والحال إن الفارق يوصل إلى طريق مسدود عندما يكون هناك شكلٌ من التعبير الشعبي أعطي مضموناً اجتماعيّاً غير مستمَدّ من ينابيع حيّة باستمرار.

التعليم الذي تلقّاه بعلبكي ترك لديه أثراً عميقاً. كان عارف الريّس يضفي على الأشكال وعلى الفنّ طابعاً اجتماعيّاً بواسطة تسييس يتعيّن عليه، كي ينجح في تجميع اللبنانيّين، أن يمحو الاختلافات الطائفيّة. كان السعي لاسترداد الإرث الطائفي يخلي الساحة أمام إبراز الهمّ الاجتماعي الذي كان يرى في ذلك الاسترداد طريقة تقوقع الناس في طوائفهم، في حين أنّ المطلوب كان على وجه التحديد إخراجهم منها.

أمّا بعلبكي فقد ظلّ على حذره، ولم يبالغ في الانخراط في هذا السبيل. كان في عدم قدرته على قراءة تاريخ الفنّ على المستوى الوطني يشدّد على الدور الذي، في نظره، يستطيع هذا الفنّ أن يلعبه كفعل تأسيسي في توالي تاريخ الفنّ في لبنان والبلدان العربيّة. كان يرى أنّ هذا الدور قد انحرف بتأثير يتجاوز المقبول من الفنّ الأوروﭘﻲ.

كان يريد العمل على تكوين فنّ أقرب إلى الواقع وعناصره، باعتبارها رمزيّة في استحضار المخزون الخيالي وبناء اللوحة. واقعيّة رمزيّة، إذاً، أكثر من كونها واقعيّة سحريّة، حيث يكون دعم الرمز أقلّ وزناً، ودلالته معطاة بلا إطناب.

لا يمكن أن يُنسب إلى بعلبكي أنّه يحقِّق فنّاً متباين الانتماء، لكنّ تباين مصادر ما يرسمه يستحضر دوماً صدوعاً بين صُوَر مرسومة، ذات تمايز حقيقي، وطباعة حجريّة ذات أصباغ نافذة لا يؤخذ عليها كونها تُلوِّن صُوَراً عاطفيّة، بل بالأحرى إغفال فكّ الرموز في قراءة هذه الصور.

يتخطّى بعلبكي في بعض اللوحات ما يبدو فولكلوريّة فنّ محلّي، ليس بالمبالغة في التدقيق التقني وحسب، بل كذلك بتكوين الصورة كموضوع ذي معنى وذي دلالة بصريّة، عندما يؤدّي فسخ هذه الوحدة إلى الفصل بين الموضوع ومعالجته.

يتمفصل جواب الفنّ، في اللوحة الواحدة، على سلسلة من التقطيعات التي تظهر كمعيقة وغير قابلة للقراءة عندما تُقرأ على المستوى نفسه. ويؤدّي تعارض هذه القراءات إلى شحن الحنين بهذه المفاصل المعقَّدة، عند نقاط إيحاء بالخصائص المذهبيّة والطائفيّة.

هذه التقيّة في تنقّل المعنى وتستيره المتناقض، كخاصية سوسيو ثقافية، تجعل من تبنّي التنقّل في صلب العقيدة وواقعاً فكريّاً ملموساً في تطبيقه على الفنّ. ربّما كان هذا ما يجب التفتيش فيه عن سرّ نجاح بعلبكي في بعض لوحاته وضياعه في لوحات أخرى. إذ إنّ النظر في مستقبل المسائل التي يطرحها، حتّى فيما خصّه وحده، يبقى بلا صدى ولا جواب خارج عمله الفنّي.

bottom of page