
شفيق عبود، في الليل، 1971

شفيق عبود، الضوء شارع مونسوري، 1982-1983

شفيق عبود، عرس كردي، 1949

شفيق عبود، في الليل، 1971
عبّود، شفيق
محيدثة (لبنان)، 1926 ـ باريس 2004
بعد دراسة لسنتين 1946- 1947 في الأكاديميّة اللبنانيّة للفنون الجميلة Académie Libanaise des Beaux Arts (ألبا ALBA)، تَردَّد عبّود ذهاباً إياباً بين بيروت وباريس في زيارات تخلّلها تسجيله، سنة 1949، بمرسم أندره لوت André Lhote، قبل أن ينال منحة دراسيّة من الحكومة اللبنانيّة وينتسب بين سنتي 1952 و1956 إلى المدرسة الوطنيّة العليا للفنون الجميلة في باريس.
أقام معرضه الأوّل في بيروت في دار السينما العسكريّة بتاريخ 19 كانون الثاني 1951، تلاه معرضان آخران سنة 1955 في غاليري دو بون de Beaune وغاليري لا رو La Roue في باريس، قبل نيله شهادة التخرّج.
يمكن اعتبار شفيق عبّود، ربّما أحد الأكثر تعقيداً بين الرسّامين اللبنانيّين الذين عاشوا في فرنسا. فبتصرّفه كفنان ينتسب إلى مدرسة باريس لم يتوقّف عن ممارسة الديالكتيك التنازعي في العلاقة باريس – بيروت، في فنّه كما في حياته، وهذا دون أن يغيب عنه أبداً تاريخ الثقافة في لبنان وضرورة أن يضع نفسه في منظور لبناني. هذه البقعة من الأرض حيث تتزايد المنزلقات بقدر ما تتعدّد القراءات، مشوِّشةً كلّ صورة ممكنة لثقافة وطنيّة، مع ميل هذه الأخيرة إلى الحفاظ على التوازن بين الثقافات المذهبيّة المتعايشة، أكثر من ميلها إلى تعريف نفسها بنفسها.
طرح عبّود، عبر مسعاه لتعريف هذه الهويّة الثقافيّة اللبنانيّة، مسألة دمج السيرة الذاتيّة والرسم وثقافة الفرد الخاصّة، وربط هذه الوحدة بعلاقة مع الوسط الباريسي الخاصّ بالفن، وفق العلاقات التي كانت قد نُسِجت بين باريس وبيروت. فبينما كان لبنان يتوصّل إلى تحقيق استقلاله (1943)، كان جيل عبّود يبلغ سنّ الرشد، ويطرح مطلب فنّ وطنيّ ضمن التيار الإيديولوجي الخاصّ بتلك الفترة. فأيّ نموذج كان في إمكانها أن تعتمد؟ بالطبع، فرّوخ، وأنسي، والجميّل، كانوا لبنانيّين، إلّا أنّهم كانوا يعملون تِبع الانساق والقواعد التي أقامها الانتداب الفرنسي، وكان التفارق مشهوداً بينهم والجيل التالي.
كانت النواة الأولى لهذا الجيل قد فرضت بالتالي انكساراً، حقيقيّاً وحتميّاً في الوقت نفسه، بتعابير لا تتمكّن من إقامة صلة فيما بينها إلّا في حوار نزاعي مع باريس. إلّا أنّ هذا لم يَحُل دون أن يعي أعضاء تلك النواة أنّ حضور باريس الثقافي باقِ متكافئاً وحضور بيروت الثقافي نفسه، بل وكان في الكثير من الأحيان يحجبه، كما يحجب آليّات عمل الواقع، وإدراك الأشكال وفهمها، وتاريخ الفن. ذلك أنّ باريس أكثر حضوراً في بيروت من بيروت نفسها، تماماً كما أنّ بيروت ستصبح في حضورها الممضّ، أكثر حضوراً في باريس من باريس نفسها. سعى عبّود بعناد إلى أن يكون مقبولاً في أوساط باريس، في كونها مدينة حقيقيّة ومتوهَّمة في الوقت نفسه، بقدر ما يسعى المرء إلى أن يجد لنفسه فيها موطئ قدم ويُثبِت فيها مقدرته، دون أن يكون أحد، على الإطلاق، متيقِّناً من توصُّله إلى ذلك، ومن كونه نال ما يستحقّ وأدّى ما عليه. وخلاصة القول، إنّه اجتاز المسار الذي قطعه جورج سِير Cyr في الاتّجاه المعاكس. كان لدى سِير سلفاً خبرة باريسيّة راسخة. ما جعل من عبود نقيضاً له. يوجد لدى عبّود، في الاستيعاب، والتحليل، والحساسية إزاء الأشكال واستعمالها، تناقض بين ميل شخصي إلى استرجاع ما اقتُطع منه وتوق إلى دخول تاريخ الفن بالدفاع عن شكل من البراءة يفهمه كبراءة الشكل وكعلاقة بالعالَم في حميميّته.
«لا يكون الشغل منتِجاً إلّا داخل الغرف.» يعمل عبّود وفق بضعة اعتبارات من هذا القبيل، مستخلصاً منها الاستنتاج العملي: «كان هناك قاموس لاروس المصوَّر. وعندما رأيت لوحة داﭬﯿﺪ ليونيداس في ترموﭘﯿﻞ، فهمتُ.»
كان للثقافة الفرنسيّة أثر عميق في نفوس أبناء جيله، مع كونهم متشرّبين حساسيّة أخرى، مشرقيّة نموذجيّة. إنّها حساسيّة تخلط الحسّ التجاري بالأدب: الفنّ كتعامل بالحساسيّة. إنْ هو حكاية انتداب، في حال ممارسته بالنسبة إلى البعض على الثقافة، إذ أنّه يَنتدِبـهم لاستلام الراية من بعده، خارج حقل السياسة، خلال مرحلة كان من البداهة اعتبارها انتقاليّة. وعبّود، بكونه وعوّاد من الجيل نفسه، قام من جهته بوضع نظرة ثقافيّة في مقام وسط بين الواقع، الجانب المرئي من بيروت، وذاته: التكعيبيّة، وتاريخ الفن الأوروبي، وفكرة عن حداثة تقتضي المطالبة بحقّ الاختلاف، دون أن تتوفّر لها كلّ وسائل التعبير عنه. فكان مضطرّاً، لتحقيق ذلك، إلى أن يصقل في ذاته ذلك الجانب من الحساسيّة التي يظلّ من الصعب الاحتفاظ بها على حالها نظراً إلى كونها مرتبطة بلغة تصويريّة، في وضع ثقافي اتّفق كون ميزته الرئيسيّة – على صورة تردّده بين باريس وبيروت – عدم استقرار فترة ممدّدة، للتهرّب من خيار مستحيل وموجع، من استحالة التواجد في مكانين في الوقت نفسه، تُعاش كلعبة يو ـ يو مرهِقة وانفصاميّة.
حاول عبّود دون أدنى شكّ أن يندمج في أوساط باريس، تماماً مثلما رأى، في لحظة معيّنة، أن عليه الانفصالَ عنها وتقبُّلَ تهميشه كي يوجّه حساسيّته صوب بيروت، بمناسبة معرض دار الفنّ سنة 1969 الذي ترك بصمته في تكريسه في السوق اللبنانيّة حتّى سنة 1978، لدى إقامة معرض غاليري كونتاكت. كان من شأن زيادة تدفّق اللبنانيّين الى باريس بعد هذه السنة أنّه أصلح جزئيّاً الضرر الناتج عن هذا الانقطاع. لكنّ عبّود كان، بسيرته، وعمله الفنّي، والواقع الثقافي الاجتماعي الذي ساهم في خلقه مع أبناء جيله المشتبك في صراع مع الوضع نفسه والمشاكل نفسها، قد سبق إلى طرح سؤال واقع العلاقات بين باريس وبيروت وتركيبها. فقد كان، في جانب من المسألة، ضحيّة التفاوت بين قراءاته والموقف الشجاع الذي أملته عليه الرغبة بالاضطلاع بمركَّب تصويري وثقافي كامل. إنّه، في الوقت نفسه، انطباعيّ يستخدم التكعيبيّة كي يتكلّم وراوٍ يستعمل التجريد كي يحكي. إذ تتجسّد فيه الصعوبة التي عاناها ألوف من الفنّانين: كيف السبيل إلى صون ذاتيّته إزاء باريس؟ يتدخّل لبنان هنا كجمهور وكسوق. راح عبّود يرسم أعمالاً سيشهدها اللبنانيّون كقراءة وتأويل للفنّ التجريدي، لكن أيضاً كتوحيد ما يصدر عنهم من ردود الفعل على صدمة الفنّ التجريدي والمشكليّة التصويريّة اللبنانيّة. ذلك أنّ قسماً كبيراً من الجمهور الفرنكوفوني كان في حاجة إلى لبناني يعاود معالجة هذه المسائل في عمله الفنّي. وهذا بالرغم من سوء تفاهم قائم: في الواقع، عبّود يمثّل تماماً نقيض ما بدا لهواة جمع اللوحات اللبنانيّين أنّهم فهموه.
أراد عبّود التجريد كلغة، وجاء إليها كإمعان في المهنيّة ببراعة في الأداء يعتريها الضجر وكأنّها تتهكّم بنفسها. ولعلّ طريقه المسدود كان اضطراره إلى أن يردف لوحته بشرح ما يرمي إليه كي تتمكّن اللوحة من الكلام. ذلك أنّ الفنّ يقوم في عِرفه على لغة التشكيل وحده دون افتراضات أخرى، هذا إن لم يكن قائماّ على طلب المتعة في صدى الأحاسيس. فنّ يحمل في منطلقه فقط همّ لغة الرسم الممكنة، ثمّ يصبح أكثر اهتماماً بالعمل الفني منه بالموضوع. وعندما سيتوجّب الرجوع إلى الموضوع لن يكون نسيان سنوات الممارسة أقلّ صعوبة من انفصال المرء عن جزء منه.
إستكشف عبّود مختلف الامكانيّات بصورة منهجيّة، وغايته منها ليست البحث عن سبل يسلكها بقدر كونها حقيقة لغة تستغني بتكوينها المركّب عن التوضيح التصويري لمختلف المستويات الدلاليّة والتاريخيّة. رسم الرغبة في الرسم والتمتّع به، والتمسّك بلبنان لا كـمُحاور ذي حظوة، بل بمجرّد قوّة الصلة: هذه هي المشكليّة الشخصيّة التي تكتسب لديه من الأهمّيّة ربّما أكثر من المعطيات التصويريّة وتسمح بقراءة مساره وبتفسير هذا المسار.
سيكون شعور عبّود بعدم الرضى في الـ«ألبا»، واتّساع أفقه، وبداية اندماجه بدورة سوق الفنّ والغاليريات في باريس، وحياته حتّى أواسط الستينيّات، صورة عن مسار اللبنانيّين الباريسي، وعن المصاعب والاخفاقات التي تنجم عن رغبتهم بتمثيل بيروت في حركة الرسم الجارية في باريس وعن تَيقُّنهم بأنّهم يمثِّلونها بالفعل. لكن هل كان لديه خيار آخر؟ هل يبقى في بيروت؟ يحبس نفسه في البحث عن فنّ شرقيّ، أو وطنيّ، أو عن «أصالة» العناصر؟ كان يرى بوضوح أنّه لا يجد أجوبة عن المسائل التي يواجهها رسامو جيله في الـ«ألبا». لم تكن المسألة الحقيقيّة في عدم إيجاد أجوبة، بل في معرفة ما إذا كانت المشكليّة خصبة. والحال إن تأثيرات الفنّ الأوروبي، بل حتّى تقطيعها، كانت تشكّل دوماً ستاراً يحجب ما كان يشكّل سوء التفاهم المُلازِم لبحث شكليّ، إذ يكون عليه في الوقت نفسه أن يتمثّل أوروبا - كتَدرُّب على هذا البحث – ومساءلة إرث محلّي لم يكن مدرَكاً حتّى كإرث، بل كحضور في المشهد المحلّي لرسّامين مثل أنسي، أو فرّوخ، أو الجميّل، أو سِير. لم يكن ينقص معَالِم استدلالهم في مساراتهم إمكانيّة تعيين الأبعاد التاريخيّة فقط؛ كان ينقصهم كذلك امتلاك مختلف أنماط التعبير التي بدونها تتحوّل التقنيّة التصويريّة إلى مجرّد حبكة يتوالى التطريز داخلها. أمّا لدى عبّود فتُطرح المسألة المركزيّة المتعلّقة بتفاوتات التفارق هذه بالنسبة إلى لحظات الحظوة حيث التقنيّة والتعبير يتلازمان.
ينبغي ألّا يُقصَر الأخذ بتاريخيّة الفنّ في لبنان على نزاع أوّلي بين تأثيرات الفنّ الأروبي والمطالبات بهويّة فنّ لبناني. سيعيش كثيرون من الرسّامين هذه المسألة كنقطة ارتكاز أساسيّة لا تترنّح، لأنّ لكلٍّ منهم طريقته في فهمها أو هو يعيشها لفترة قد تطول أو تقصر.
لا نقاش في كون عبّود فنّاناً لبنانيّاً هو الآخر، وهو في هذا الإطار، إلى حدّ إثارة الاستغراب، متابِعٌ لخطّ الجميّل في مواجهة المسائل نفسها المتعلّقة بالضوء واللون. ليس المقصود هنا القول بإمكانيّة تلخيص فنّ فنّان ما بمسائل الضوء واللون، إنّما المقصود إبراز التواصل من خليل الصليبي، أستاذ الجميّل، إلى الجميّل، أستاذ عبّود في «الأكاديميّة...» (ألبا).
يسجِّل عبّود قطيعته انطلاقاً من لحظة إدراجه الجميّل في تاريخ الفنّ اللبناني، لكنّه يتخطّى التفاوت الزمني انطلاقاً من قيامه بالانتقال إلى باريس رغبةً منه بان يكون معاصراً للفنّ المعاصر، وليس لأساتذته.
أخذ عن الجميّل متعة الرسم، ولذّة اشتغال المادّة، والهجس نفسه باللون. وفي آخر الأمر لم يَعُد يحاول تقديم اللون بغير العمل على كثافة المعجون، لشِدَّة ما بدا له من السهل اللجوء إلى تفسير محبَّب وتجريدي للانطباعيّة. فالفكرة التصويريّة المعالَجة بحساسيّة تكون لدى الجميّل ذريعة للشغل، وتكون المحفِّز الوسيط بكونها تُمثِّل، في أغلب الأحيان، هذا الحضور الحسّي المطلوب تقديمه، بتنويعات على اللون وفق النمطيّة الدارجة في زمنه. كان الجميّل يأتي أحياناً بهذا اللذع المرتبك، باعتباره نوعاَ من استعمال حرّ للون، محوِّلاً الأشكال بضربات ريشة عريضة وكثيفة. لم يكن ذلك عائداً إلى تأثير صليبي بقدر كونه استعانة بقراءة بصريّة للرسم الرومنطيقي، دولاكروا Delacroix خصوصاً.
أمّا عبّود فاستخدم التجريد ليذهب مباشرة إلى مسألة الضوء واللون. هناك بالطبع الخلفيّة الفكريّة: الهويّة، والعروبة، والخصوصيّة التصويريّة اللبنانيّة. كيف يصحّ الكلام، مع الضروري من اقتران المكر بالبراءة، على مجابهة مع باريس، في حين أنّه لن يكون قد جابهها إلّا في مخيّلة بعض اللبنانيّين؟ ما أراده فعلاً بإلحاح كان أن يرسم. ذلك أنّ أعماله، على توالي ارتباطاته بباريس، وُلِدت من اللون، بدءاً من تمثّل التكعيبيّة، ثمّ التفارق عنها فرَفْضِها.
كان شأن التكعيبيّة أن تكون أبجديّته الكلاسّيكيّة، ومفردات اللغة التي سيتوجّب عليه لاحقاً تحويل وجهتها – سوء تفاهم منهجي، غير أنّ لوت Lhote وليجيه Léger لم يكونا الوحيدين في باريس الخمسينيّات. ما أراده عبّود، في مجال الرسم، كان ضوء قريته وألوانها؛ كان كلّ هذا، لكن كذلك دروس الجميّل في «الأكاديميّة». وعندما انتسب إلى مدرسة الفنون الجميلة في باريس، كان يأمل أن يحافظ على جذوره الشرقيّة، وفي الوقت نفسه ألّا ينقطع عن مدينة كباريس حيث يتوجّب عليه، كفنّان، أن يعيش ويعبّر. وكان له من دروس لوت وليجيه، ومن تأثير التكعيبيّة الجديدة في تلك الحقبة ما مكّنه من تفكيك اللوحة اللبنانيّة الكلاسّيكيّة. هذا ما هيّأ التربة للتجريد الذي مارسه على الفور باعتباره لغة تنتظر استكشافها.
يكون الاحساس، عند منطلق اللوحة التجريديّة، إحساس الموديل الذي يجلس ويصبح المُحفِّز تدريجيّاً للتملُّك، ولتشكيل مجال اللوحة هندسيّاً، وللعبة الأشكال والألوان. يقتحم عبّود الرسم بسلسلة من الومضات الحدسيّة والتمثّلات التي يدأب على استكشافها حتّى آخِر مدى. هذه طريقته من المنطلق في التقاط الأجواء براهنيّتها، وتقديرها بمقاس ما يطلبه كرسم، والانصراف إلى عمل لا يتركّز على مراجعات للتدقيق بقدر كونه يتركّز على تنويعات. ويبقى الثابت لديه ما يريد في لحظات مختلفة تقديمه للتجريد؛ وهذا ليس علامة شرقيّة، بل إرخاء للبنية التجريديّة إراديّاً، رغبةً في إطلاق حرّيّة العمل الفنّي. وفي المحصّلة، أخذ عبّود يمارس رسماً تجريديّاً أوروبيّاً كما في الستّينيّات، وأضاف إلى ذلك، كونه لبنانيّاً مقيماً في باريس، مشكليّةً شخصيّة أكثر منها تصويريّة. ويكمن سوء التفاهم في كونه لا يستطيع أن يشتغل الـ«شخصي» في الإطار الـ«تصويري»، نظراً إلى أنّ البنى التصويريّة المستخدمة ليست ملائمة.
فالتكعيبيّة، كمثال يُحتذى في النظام والوضوح، في البناء والتوضيح، هي نقيض الرسم الذي يطمح إلى تقديم مرثية حسّيّة وأدبيّة، وإلى تعبير مرتبط بسلسلة من المشاعر، والذكريّات، والفِكَر التي تكون بفجاجتها غير قابلة للاستخدام كتراكيب بلاغيّة أو أسلوبيّة، لها معادلاتها الشكليّة الأوضح من أن تَحول دون الدخول إليها تاريخيّاً، في لعبة تراث ثقافي حيث تشكّل العودة إلى الماضي ملاذاً لتَجَنُّب صعوبة الاستعانة بالحاضر. توجد في ذلك الرغبة برسم سرد حكائي، رسم ذي بنية تكون من البساطة بحيث تتمكّن من القصّ، والانسياق مع الحكاية، بمثابة طلب استعادة مفردات الاشكال والالوان، مع فارق أنّ القصد عند المنطلق لا يُستشفّ دائماً بهذه الدرجة من النقاء والوضوح.
يقال عن لوحة عبّود إنّها مطبخ تصويري فـخم، لكن مع عجز مفرداته الخاصّة وتجريده عن التوصّل إلى ما هو أبعد ممّا يدّعي منتقدوه أنّه محدوديّة في مزاولة الرسم. والحال إنّه، حسب كلماته، قد قام، أقلّه من أجله هو وفهمه شخصيّاً، بتوسيع حدود هذه اللغة إلى حدّ بعيد، مضمِّناً إيّاها رغبة في القصّ وفي التصوير،كمعادل تشكيلي لشاعريّة تعبيريّة. فهو، دون أن يكون أدبي الطابع بالضرورة، حتّى لو وقع له أن يستقي من عناصر أدبيّة، يحاول أن يتعامل مع عناصر الهويّة واللوحة ويُفصِح عنها في إطار سيرته، ويربط بذلك العناصر الابداعيّة والتشكيليّة للغة تولد من امتلاك تشكيلي للّاتصوير. لكنّ هذه العودة نحو قصّ تصويري تصطدم بنوع من الحنين العاطفي، مشيرة إلى التطوّر نحو إضفاء شاعريّة إلماحيّة على عناصر تشكيليّة وتصويريّة. وهو بالاشتغال على هذه العناصر لذاتها، يحاول أن يلتقط فهماً شعريّاً للهويّة في شبكة حساسيّة تصبح حبكة اللوحة.
رسم يقدِّم إمكانيّات كلام، تكون إحدى الامكانيّات الوحيدة التي تمثِّل، بثباتها على ما تقول وما لا تقول، إمكانيّةً لنقد ولتعدّد في القراءات: ذكاء شديد الاحتياط أو كفاءة ماكرة تخصّ المطبخ التصويري، وتَمتُّع بهذا المطبخ نفسه.
لماذا لا يبدو عبّود أبداً متخطّياً اللوحة إلى ما وراءها؟ هذا أحد التساؤلات الرئيسيّة المتبقّية حوله. والإجابة تتّصِف بالحِدّة: لا وجود للفنّ ما بعد اللوحة. لقد ظلّ محتفظاّ بالحبكة الداعمة لتساؤله بكامل تعقّدها، وحافظاً التناقضات، في الحدّ الأقصى، كديالكتيك ضروري لتَقدُّم عمله، حتّى في لحظة الأزمات الشديدة، عندما كان يُفتقَد الجواب العملي وحيث كانت المعضلات والنزاعات الشخصيّة تُشكّل طريقاً مسدوداً: خصوصاً في شأن الهويّة، منظوراً إليها لا كشهادة شخصيّة، بل كفعل تكويني وتأسيسي ينبني عليه العمل التصويري ويتواصل. وتحلّ لحظة لا يعود يُنظَر فيها إلى هذا العمل ككتلة صلدة، بل كإضافة ضروريّة لمختلف التجارب والمحاولات. ينبغي تَقبُّل التواريخ، والتاريخ، والطابع التاريخي.
فالوقت المنسي، والذي لا يُركَن إليه عند المنطلق، بات تأسيساً لقراءة اللوحة. لم يكن رهان عبّود سهلاً. فبحضوره بالجسد في باريس، وقلقه حول حضوره في بيروت، كان عليه الابقاء على هذه الثنائيّة، دون اقتطاع هذا الجزء أو ذاك من نفسه. يصحّ القول أيضاً إنّ قسماً من العزلة الضروريّة لعمله في باريس كانت تعوِّضه فترات أقامته المتكرّرة في بيروت، دون أن يكون الأمر سياحيّاً. كان عبّود يشعر بانتمائه إلى فكرة عن لبنان يرجعها ليس إلى مطالبة بقرية، إنّما إلى مطالبة بطفولة، بعناصر تصويريّة للسعادة: شمس الألوان، لون الضوء، أشكال الكلّ وترجمته. فبينما كان الرسّامون اللبنانيّون يقضون في باريس أوقات دراستهم، ممدَّدة بضعة سنوات، ويعودون إلى بيروت إذ يتحقّقون من عدم تكيُّفهم، استطاع عبّود أن يتحمّل الأمر، ليس من أجل متعة كسب الرهان بل تلبيةً لضرورة ذاتيّة. كان قد انحاز إلى الفنّ، والفنّ، بالنسبة إليه، كان في باريس.
عاد سنة 1950 إلى العمل على الإرث التصويري، وسط زحمة دراسات الرسّامين اللبنانيّين في بيروت وأسئلتهم. لكنّ تاريخ الفنّ الحديث استبعد فجأة الطابع النسبي للمطالبة بأباريق وأقداح فضّيّة شرقيّة، مثلما استبعد المطالبة بفنّ ذي أحجام محدَّدة مسبّقاً ولا مكان بداخلها إلّا لتنويعات، على أنّها الإضافة إلى فنّ حيّ. كانت التأثيرات الشرقيّة قد أوصَلت إلى طريق الفولكلور المسدود. حاول عبّود التوسّع بالاشتغال على مستوى اللغة، والحكاية، والشكل الأدبي المرئي كفضاء حرّيّة، حيث يترك أمر البناء والاستطرادات للمشيئة الحرّة، لكن كل مشيئة حرة. هل كان من الممكن إضفاء الطابع الأدبي على هذا الشكل بتطبيقه على التجربة الشخصيّة؟ تحقّقت المحاولة على مراحل، من الحكايات الشعبيّة مخطوطة ومصوّرة، ولاحقاً تزيين نصوص لشعراء بالرسوم، وتلبية الحاجة إلى الكتاب كغرض في ذاته، شكلاً وتشكيلاً.
أَسمعَ عبّود صوته في أرهف تنغيماته؛ صوتاً يُنصت إلى الآخرين. وبدل ألّا تكون اللوحة بالنسبة إليه إلّا المكان الوحيد لتأكيد الذات بهجوميّة عنيفة وحسْب، باتت كذلك مكان حوار. يوجد في أدائه دائماً هذه التردّدات ذهاباً ـ إياباً ذات الطابع الأدبي والبلاغي، لأنّ مكان ممارسته العمل الفنّي هو المكان الذي، بعد بعض الوقت من انخراطه في العمل، يغدو من المتعذّر عليه التراجع إلى الوراء قليلاً لتقييم الأداء. ثمّ إنّ المديح غالباً ما يعطّل القدرة على تمييز الأمور. والحال، لدى عبّود كذلك، لعلّ الجوانب التي لا تحظى بالمديح هي تلك التي تكون الأجدر بأن تُمدَح، لكونها الأكثر كشفاً للتجربة التصويريّة، للإضاءة على مكامن الفشل في التجربة التصويريّة، لكن المستبقاة على حالها، كشهادة عمّا سيلي، وغير مموّهة لتبدو كنجاح.
كان انتماؤه السوسيو - ثقافي إلى الوسط الأرثوذكسيّ، وموقف قريته السياسي، يستبعدانه من وضعيّة «مارونيّة»، هي في اصطلاحات الخطاب الراهن أقرب إلى المسلّمات، بالمقارنة مع ما كان يمكن أن يظهر منها في ذلك الوقت. ذلك أنّ الأمر لا يتعلّق باعتباره المنافح عن قضيّة في المشكليّة النزاعيّة الخاصّة بالعلاقة الثقافيّة باريس ـ بيروت، بقدر كونه يتعلّق بالمسار، المثالي والفردي في الوقت نفسه – المثالي لكونه فرديّاَ –، هذا المسار الذي يواصل تقاليد العلاقات بيروت ـ روما، أو تقاليد الرسّامين الذين درسوا في باريس زمن الانتداب.
يُذكَر في هذا الصدد المسار المعكوس الذي اتّخذه سِير. غير أنّ عبّود قرّر البقاء في باريس. فهل كان ذلك منه مجرّد استراتيجيا غايتها المكانة؟ لا يبدو الأمر على هذا النحو. إذ يتعلّق بالأحرى بتعقّد الدوافع، وبحقيقة واسعة الانتشار تجمع ما بين أن يرى المرء نفسه لبنانيّاً في باريس بالخبرة، وباريسيّاً في بيروت في الواقع، ومع الوقت، بالضرورة.
لا يرى عبّود نفسه في إطار من الفنّ اللبناني الصِرف، الذي يستبقيه حبيس أفق مغلق، في حين أنّ أعماله، على المستوى التاريخي، ابتداءً من 1955، تندرج في حركة رسم أممي تنطلق من باريس. ومع كون إسهامه مرتبطاً خصوصاً بصعوبات أن يكون لسان حال بلد، يبدو المهمّ لديه متعلّقاً بشيء أساسي: إنّه يرى نفسه، إزاء الفنّ، كقارئ للفنّانين الذين أحبّ، أو الذين كان قريباً منهم. فهو قد أدّى، بحضوره في المشهد الباريسي وبالنظرة إليه كما أرادها اللبنانيّون، دوراً ثقافيّاً مهمّاً، بلغ أقصى مداه عبر تغيير إدراك الاشياء، وضرورة إيلائها أحياناً بعض الاهتمام الإضافي، ليس عبر اتّباع الموضة، بل عبر بُعدٍ كثيراً ما يُغيَّب في تاريخ الفن اللبناني: الحسّ النقدي في حَدّه الأدنى. كان الأمر، بالطبع، يقتضي امتلاك وسائله، لكن كان لا بدّ كذلك من فهم أنّه ينطوي على شيء من الفائدة في تَقدُّم فنّ كانت التغيّرات التعبيريّة فيه تعتمد على جهل الـمُشاهد وعلى الهاوي الارتجالي بقدر اعتمادها على فكرة السلعة المستوردة من باريس.
هذا لا يعني أنّ عبّود لم يجد نفسه يتخبّط في وضعيّة كهذه، إلّا أنّ ما أنقذه جزئيّاً هو أنّه لم يكن يعيشها في بيروت، بل مع المسافة التي تمنحه إيّاها باريس ومع خطر يتمثّل، أحياناً، ليس في عدم قياس المسافة، بل في إيلاء قضايا ثانويّة أهمّيّة لم تكن لها. إنّه، في الحقيقة، يمثّل مجموع نزاعات الثقافة التصويريّة اللبنانيّة وتناقضاتها، وصورة الثقافة اللبنانيّة الحديثة عامّة.
حاول عبّود لاحقاً، بتأخير واضح، حتّى نهاية سنة 1960، «تثقيف» اشتغاله على تسويق شخصيته، انطلاقا من لحظة دمج هذا الاشتغال نفسه في عمله التصويري، كالعلاقة الضروريّة المُقامة مع الذات، وقد اصبحت أكثر استبداداً نتيجة الحضور الإرادي المزدوج لباريس وبيروت معاً، لكن نتيجة صونه براءته، محتفظاً من المدينتين – صُوَراً، ومَواطِن، وثقافات، وانفعالات، وأحاسيس – بحضور مزدوج ورفض جذري لتعريف الانتماء إلى باريس وحدها. كيف يتسنّى الشغل على الوقت، كوقت مقتسم بين مدينتين، مع كونه كذلك أحد العلامات النادرة التي لا يستطيع الرسم أن يشتغل عليها مباشرة وليس له عليها من تأثير؟ كان ذلك بالأحرى، بالنسبة إليه، مسألة غريزة البقاء.
ومع اندلاع الحرب في لبنان، ابتداء من سنة 1975، لن تعود المسألة مطروحة بهذه الدرجة من الجذريّة، إذ بات التقاسم بين باريس وبيروت مستحيلاً. ومع أنّ عبّود ظلّ يزور لبنان حتّى سنة 1980، فهو لم يستطع أن يرى إلّا تقطيعاً للجسد يصيبه شخصيّاً في تدمير البلد الذي كان قد جعل منه، عبر آليّة تظهير انفعاليّة، المحرِّكَ العاطفي والسرّي للفن لديه.
أنه بلد داخلي وفي الوقت نفسه خارجي، موضوع، مكان خارج الذات في تناقض شديد الغرابة، مكان حقيقي وتَوهُّمي يُيَسِّر مختلف الانتقالات ويطلقها. من المؤكّد، بالفعل، أنّ قسماً كبيراً من تحليلات عبّود وشغله الدائر في قرارة نفسه تركّزا على وضع لبنان على مسافة منه كمنظور قابل للتكييف والاستعمال في عمل تصويري. لقد كوّن لبنانَ ككهف ترجيع أصداء شاعريّة، كموضوع خارج الذات، مع أنّه موضوع شاعريّ. اشتغل على بناء الصورة الشرقيّة، بالمعنى الواسع للكلمة، والمتغيّرة حسب العهود، من التجريد التامّ إلى محاولات تصوير حيث ينوب شكل اللون عن المبنى. فلبنان بالنسبة إليه رهن الضوء في معجون اللون. وفي حقيقة الأمر، أتقن عبّود هذا الرسم، إتقاناً ولا أكمَل، صفاء المعجون، بلا استشراس في الانحياز إلى مادّته، إنّما باشتغاله بالشغف، والعاطفة، والذكرى، وانجدال الرسم على الحياة. كان في ذلك سذاجة ضروريّة لدمج المعادلة المزدوجة، الفنّ ولبنان، في عيش الحياة اليوميّة، وعيش الوقت كذلك.
أخذ عبّود يشتغل على التاريخ الثقافي كما على تاريخ عمله الشخصي في فنّ الرسم. ونجح بلا أدنى شكّ في تكوين هذا الجانب من شخصيّته الذي كان أقلّ مبتغاه أن يجد آخرون تعريفاً له: العلاقة باريس ـ بيروت القاسية والعصيّة على التعريف، أي، كذلك، الوسيلة الوحيدة لدرء كلّ منفى بالفنّ.
وهو، في موقعه من زاوية تاريخ الفنّ، أضاع أمجاد وبهارج مدرسة باريس لينتظم في صفّ الفنّ اللبناني. تسود لديه هنا قاعدة التفاوت والاستنساخ، كما يسود هذا البثّ الغامض للجانب الفظّ والبدائي من الاحساس الذي يجعل منه التلميذ الوحيد لقيصر الجميّل.
كيف له أن يكون تلميذ الجميّل في باريس؟ ترتبط حقيقة علاقته بالفنّ بنقطة أكثر بساطة: الرغبة. فعبّود حلقة في سلسلة خطّ الجميّل بمعنى إبلاغ الرغبة أكثر من إبلاغ الاحساس التصويري، الذي لا يستبقي عبّود منه، ولا يطلب، إلّا المكبوت. هذا الاحساس الجسدي باللون هو أكثر مَطالب الفنّ بديهيّةً، عندما تكون الفكرة الوحيدة في رسم ـ لون قائمة على عرض الانطباعيّة في التجريد.
كان ما أنقذ عبّود مجرّد كونه فَهِم ابتداءً من منتصف الستّينيّات أنّ عليه اتّباع رغبته قبل اتّباع الرسم.
ليست المسألة مسألة تاريخ ولا مسألة تتابع أجيال، بل هي مسألة استحالة دخول تاريخ الفنّ إلّا عَبْر اضطلاع فردي. هناك بالتأكيد شيء مفكَّك. عن طريق لعبة تَرَدُّد ذهاباً ـ إياباً. يجرّ عبّود وراءه هذه السيرة الذاتيّة التي يحتلّ المركزَ منها الأبُ الغائب، والتي يتعلّق استبدالها، في الأغلب، بالوجه الأودﻳﭙﻲ، من جهة، وبالاعتراف به كفنّان، من جهة أخرى.
أثر الاعتراف هذا يثبّت المرآة ويَسِم الانعزال اللاحق الذي لن يعود من الممكن الخروج منه بعدذاك. لكن، في الوقت نفسه، هذا ما أتاح له أن يتحرّر: انطباعيّة فواصل اللون الكبرى جالسة على مقاعد المدرسة. سيكون من شأنها، كأنّما إلى ما لا نهاية وحتّى الغثيان، تكرارُ رَكْل الفنّ في باريس، حتّى 1970.
تتمثّل المسألة الرئيسيّة لفنّ الرسم اللبناني هذا في غياب الآباء التضليلي وفي الصعوبة القصوى التي يواجهها الفنّان في إيجاد مكان لرغبته. أمّا عبّود فقد نجح في ذلك عَبْر الطريق الأطول، طريق التدرّب الاجتماعي الذي في صداه استطاع إيجاد مكان لرغبته. كان فنّاناً لكونه اهتدى إلى الموقع الاجتماعي للفنّ.
حلّ عبّود في موقعه كفنّان باريس اللبناني، غير عارف أنّ الحقيقة، في آخر دربه، هي كونه الفنّان الفرنسي الذي يرسم لبنان عبر تشكيل بؤرة في العمل تجعل من نتاجه التصويري عكس الشخصيّة الاجتماعيّة وعكس الصورة التي يقدّمها عن هذه الشخصيّة.
كان عبّود أول فنّان لبناني يحلّ في باريس بعد استقلال لبنان. لم يكن الوحيد، إذ إنّ هناك رهط الفنّانين الأرمن ابتداءً من الخمسينيّات، من بارﻛﯿﭫ حتّى بزديكيان، عندما كانت الموضة تقضي بأن يمضي الرسّام بضعة سنوات في باريس قبل العودة إلى لبنان. نمط العلاقة بيروت ـ باريس هذا كان، عبر المسافة، يكرِّر التباعد الجسدي ويترجم التفاوت الفكري بظاهرة موضة.
هذه الثقافة اللبنانيّة في القرن العشرين، المتمحورة حول البلاغة واللغة، الحريصة على انتقالهما وتكيّفهما، ستفيد خصوصاً في تنظيم مقاربة للعالَم أدبيّة صِرف. ولا يُعتبَر الفنّ في مثل هذه المقاربة، في حدّه الأقصى، إلّا بمثابة عمل حِرَفي، وهي، بالتالي، تُنكر عليه قدرته على المشاركة في الحياة الفكريّة والثقافيّة.
هكذا يكون هذا الفنّ قد أهدى اللبنانيّين، كليمونة يكسوها الجليد، هذه القشرة من الاحساس، ملصقة على إدراكه الحسّي على نحو أقلّ بروزاً ولَفْتاً للحواس. وكانّه يقول: ما الذي يفهمه المرء من إحساسه، أقلّه فيما يخصّ إمكانيّة إيصاله؟
ما أراد عبّود إيهامنا به كان يتراجع كلّه أمام الاحساس الأساس. كان في حقيقة الأمر يحاول أن يثبّت في صميم ممارسته الممارسةَ التي تضفي الطابع الاجتماعي على ابن المدينة الأرثوذكسي. وتكمن مشكلة طُعْم الاحساس هذا، هذه الفضيحة العابرة بنشازاتها أو بخفّتها، في كونه، حَرْفيّاً، يدخل في متن الكلام.
عدا صدمة التأثيرات، سيكون هناك الصدمات الارتداديّة، ذكرياته العنيدة عن المنظر الطبيعي التي سيظلّ يلاحقها طيلة الخمسينيّات والستّينيّات. لم يكن يكرِّر في لوحاته رسم الحياة أو الذكريات التي تجول فيها أعمال تلك السنوات، بل مادّة تلك اللوحات وطريقتها، باعتبارها نسيج فنّ يخصّه شخصيّاً.
كان هذا الأخير قد غدا التعليق على كامل المادّة التي تشرّبها وتفسيرها، بما تضمّه من انفعال، وعاطفة، وكتاب، ولوحة. فأعمال عبّود، إجمالاً، عبارة عن تأمّل في نمطين من الفنّ متجابهين، نمط قيصر الجميّل ونمط ما بعد التكعيبيّة بين لوت وفرنان ليجيه.
كانت المسألة التي يطرح هي مسألة العصر الأساسيّة: كيف يغدو الفنّان معاصراً تماماً لحساسيّة العصر ولنظرته؟
وينتهي الأمر بأن المظهر اليدوي، التأهيلي والدائم الحضور، والسذاجة الضروريّة، يصبحان تحت سيطرة أكثر فأكثر وضوحاً. راح عبّود، ابتداءً من 1975، يشتغل فنّ لبنانيّي السنوات 1970 إلى 2000، أي الرسم التجريديّ والباريسي، الذي كان في إمكانهم إدراكه بحساسيّتهم في مستواها الوسط. كان هذا الرسم يترك لديهم الانطباع بأنّهم راسخو الحضور في تجاوب تامّ مع الثقافة ومع حساسية الفنّ في العالَم.
كان ذلك نافذة تطلّ على السعادة، إن لم يكن السعادة بعينها، وكان تصويراً لما يمكن أن يكون السعادة، إن لم يكن رَسْمَها.
كان ذلك بالتأكيد قضيّة أخرى بالنسبة إلى أولئك الذين ما كانوا ليحتملوا المبالغات في اللون. كانت ألوان عبّود قد اتّخذت تلاوين الأصفر والبرتقالي المتجاوبة مع بونّار Bonnard. لم يكن استنساخاً له، بل نقلة زمنيّة لفهمه الثقافي والبصري.
والخلاصة، أنّه سيكون قد خاض صراعاً كي يصبح معاصراً لنفسه. كان ليفضِّل القيام بذلك في متعة الرسم، في حين أنّ المتعة هذه فـخّ أكثر خطورة ممّا كان يتصوّر. فهي تعاش كمشروع يومي عبر التقشّف الذي يشقّ الطريق أمام التيه البرّاق baroque، كما أمام مجرّد التشدّد التخطيطي.
وهو، على أيّ حال، سيظلّ يوازن ما بين التلوينيّة البرّاقة وتشدّد تخطيطي يُفترض أنّه يدقّ جَرَس الشروع بالبناء.
وتظلّ المتعة رغم كلّ ذلك رهن إدراك فعل الرسم وحسب. ومن الأساسيّ بالنسبة إليه واقع أن يعيش الحالة في باريس، لأن ذلك يفرض عليه مواجهة طريقة مختلفة يرى بها إلى عمله الخاصّ. ومرّة أخرى تعود المسألة نفسها: كيف له أن يكون معاصراً لنفسه مع بقائه متنبّهاً إلى كلّ الجوانب التي يودّ الحفاظ عليها، السيرة والطُرفة، تاريخ الفنّ وهذه الطريقة في تدجين الاحساس والمزاج.
وإذا كانت أعماله تبدو كذلك بمثابة سيرة ذاتيّة حسّاسة وحسّيّة، مفكِّرة بلا كلمة عبر رسم فن الرسم، فلعلّه يكون كذلك قد وجد التقاليد البيزنطية مستعادة في الجبل اللبناني. تقاليد يتدخّل فيها اللاهوت بالسياسة وتتيح للفنّان إدراك أن كلّ تقليد عائلي مفهوم جيّداً يستوجب منه التخلّي عن حانوت البقالة بالجملة ليستعيده على حال أفضل ويصبح مجدّداً ذلك البقّال اللبناني في باريس.
إنّها التلوينيّة عبر إشباع اللون. ويضيف عبّود إليها ما لم يكن غائباً عنه منذ المنطلق: حانوت البقالة بالجملة للرسم الزيتي. شيء معطاء، غزير، متوسّطي، ملوَّن، لكن، ما شأن الفنّ في هذه التخمة حتّى عسر الهضم؟
يطوّر الرسم لديه خطاباً موازياً للّوحة ولا شأن له فيها. ويطوّر كذلك ممارسة منفصلة تماماً عن الخطاب. فالتلوين بالمالج لا يعمل العمارة. أي، ببساطة، إنّ قراءة الصورة عند المنطلق، مهما تكن قد استطاعت أن تترسّخ في الممارسة الباريسيّة، ترجع إلى بدائيّة في غير وقتها تلامس رسماً تجريديّاً ساذجاً يتعذّر أن تُجسِّده الأشكال التي فارقت وقتها.
إنّه رسم ساذج في حواره مع التجريد الأوروبي. ذلك أنّ عبّود أعاد قراءة الرسم التجريدي الباريسي، لسنوات 1950 إلى 1970، بكونه معاصراً ومقدِّراً في الوقت نفسه المسافة التي يمثّلها جهازه الذهني، كحسّاس ومثقّف لبناني، أي مع قواعد تَشكُّل لغة تصويريّة مستقلّة وفرديّة.
لعلّ الجميّل اعتبر الجديد البصري واللوني الذي جاءت الانطباعيّة به كملاذ ممكن أخير لإيقاظ الرسم الأكاديمي، المؤدّى الوحيد لمصطلح الجسد، حتّى دون التنبّه إلى أنّه لون البشرة لا أكثر، أمّا عبّود، فكان مدركاً وجوب إعادة تكوين لغة رسم قائمة بذاتها، ليس في واقع استخدام الألوان والريشة واللوحة ، بل واقع العالَم الذي في مقدور تلك اللغة أن تؤدّيه. وبالفعل، عبّود لم يغادر حانوت البقالة العائلي الذي كان لأبيه، ولا عقليّته.
وللغرابة هذه هي بالذات طريقة استبدال الهويّة والتساؤل في الخطاب الذي يحمل دوماً على تشكيل تركيب يأسر الرسّام تاريخيّاً في سوسيولوجيا تاريخيّة.
والحال، إنّ الرسم لا يستطيع أن يكون حدثاً إلّا في تاريخ الرسم، ولا يستطيع أن يقصر مرجعيّته على القراءة الصحافيّة. لكنّ إلحاقه بموقعه التاريخي، في المقابل، عندما لا يكون في إطار تصويري صِرف، يجعله تطبيقاً لسوسيولوجيا التصوير ليس إلّا.
ينبغي ألّا نهمل جانب القَطْع الاجتماعي الذي ترتّب، لدى عبّود، عن الرغبة بأن يصبح فناناً. لا علاقة لذلك مع منعه أو الإهابة به من قِبَل الأب: ستعود إلى حانوت البقالة بالجملة. إنّه قَطْع ذو علاقة مع الشعور بمجاراة نداء الموهبة وسنرى إلى أيّ حدّ سيكون بعض الوزن في الترجيح، خلال سنوات 1950 إلى 1962، للصداقة وللمنافسة الصامتة، ليس إلّا، مع دعم وحيد. استند عبّود إلى دعم روجيه غِندرتايل Roger Gindertaël ، مثلما كان عوّاد قد استند إلى دعم فريتز غوتهلف Fritz Gotthelf . فمراحل الاستفهام وطرح الأسئلة والتأرجح في حياة عبّود ورسمه مثبتة دائماً في لوحاته بعلائم قَطْع تصويريّة. للمقارنة، الرسّامان نَلّار Nallard وموزِر Moser، المقرّبان مثله لبعض الوقت من روجيه ﭬﺎن غِندرتايل، استهدفا شرقاً اخلاقيّاً وذهنيّاً في الوقت نفسه، ومهمّاً بالنسبة إلى تجذير التجريد كلغة، حتّى لو لم يكن في الامكان النظر إلى هذا الشرق كـقراءة أوّليّة للاستشراق. بالفعل، إنّ شخصاً مثل موزِر يظلّ نتاجاً صافياً للثقافة الجرمانيّة.
حاول عبّود أحياناً أن يختبر المسطّحات الصافيّة، كمادّة لتجذير رؤيته، لكن لم يكن في مقدوره ألّا يعود إلى ما ميّز فنّه دائماً، نعني حساسيّة مسطّح اللون بعد الشغل عليه وإغنائه. طريقته في الاستسلام لمتعة الرسم. في هذه الحالة لا تستطيع الصورة أن تُفرِج إلّا عن نقيضها عدا كونها لا تستطيع أن تنطوي إلّا على أثر موضوعها بكامل ملموسيّته الجسميّة.
إنّه مثال الموقف الأدبي والجمالي لهذا الجيل من اللبنانيّين الناطقين بالفرنسيّة الذين تشكّل باريس حلمهم الوحيد، بوصفها مكان حرّيّة وإنجاز، ومن ثمّ مكان استكشاف.
نمط العلاقة بيروت ـ باريس المكرَّر عبر المسافة والافتراق الجسدي وترجمته الفكرية يصبح ظاهرة موضة. ينبغي التيقّن كذلك من أنّهم يندرجون في تواصل هذه الثقافة اللبنانيّة منذ القرن التاسع عشر، كتفاعل عوالم مركّبة وثقافات جرى تمثّلها سطحيّاً، وتمحورت في الوقت نفسه حول البلاغة واللغة، مهتمّة بنقلهما وتكيّفهما في أجواء أخرى، ومهتمّة كذلك بتحصيل العلوم كرديف وحيد للدقّة.
هذه الثقافة لم تنظر إلى الفنون أبداً خارج الحِرفة، ولا حتّى إلى إمكانيّاتها في المشاركة في الحياة الفكريّة والثقافيّة. لكنّ الانتباذ العُصابي لدى عبّود تركّز على الجميّل. فهو لم يتلفّظ باسمه إطلاقاً منذ سنة 1951.
كان اختياره قد وقع نهائيّاً على الجميّل وثبّت اختياره بأطول صمت مُطبِق. رَسَمَ عبّود الرغبة التي أورثها الجميّل. وتبقى النقطة الأساسيّة في انتباذ الاسم.
المفارقة الغريبة في الظاهر تتمثّل في التحقّق من أنّ العُصاب وانتباذ الإسم لدى عبّود يدخلان في صميم عمله بحيث يبدوان أحياناً أكثر إثارة للاهتمام من العمل نفسه. بل هما العمل الحقيقي في البحث عن الفن وعن الحياة، عبر هوس خلطهما، عندما لا يتوصّل الرسم لديه إلى تجاوز فعل البومرانغ، ارتداد الرمية إلى الرامي في لعبة النفوذ والتأويلات.
هذا العُصاب، على المستوى التصويري، تعود أبوّته فعلاً إلى قيصر الجيّل. إنّه ينطوي على الانتباذ، كما رأينا، لكنّه يحمل الطريق المسدود كذلك. ذلك أنّ قيصر الجميّل، لم تسعفه سنواته الباريسيّة في عشرينيات القرن العشرين حتّى في أن يفطن إلى الحداثة. إذ إنّه لم يكن قادراً على الاستمرار إلّا بالنقل المباشر لإرث الصليبي، وكانت الحداثة الصدى المتناهي والحسّاس لانطباعيّة مباشرة عبر شهوانيّة ضربة الريشة والإعلاء من شأن اللون.
كان هذا كلّه جنسيّاً، إلّا أنّه ما كان ليذهب أبعد من الحسّ بدلالته الأولى.
يعود عبّود إلى الجميّل مواصلاً إيّاه دون أن يكون أيّ منهما قد أفضى للآخر إطلاقاً بأيّ شيء عدا هذا النسب اختياراً: إبن البقّال بالجملة كان يريد أن يكون الابن الحقيقي للرسّام. لا شَوْر ولا دستور. تشاء المصادفة أن يكون عبّود أكثر تعقيداً من الجميّل، في قَدَره النفسي، وفي أنماط انكفائه وثقافته.
ينطوي عبّود كذلك على هذا الاندفاع الأوّلي الذي يجعلنا نستنتج بعد عشر سنوات أو عشرين أنّنا كنا قد ذهبنا بعيداً دون أن نذهب إلى أيّ مكان إن لم نكن ندور في حلقة. كان يريد أن يرسم في باريس بعيداً عن كلً هؤلاء اللبنانيّين.
كان عُصابه يمثّل الانشطار بين باريس وبيروت. استحالة اختزال التفارق ووَصْل قُطبَي حياته وهاذين المجتمعَيْن. ولاؤه في البدايات للحزب الشيوعي اللبناني باعتباره الضامن الوحيد لعلمنة ممكنة لن يذهب به أبعد من الخيبة التي أصابته لدى رفض انتسابه إلى الحزب أو انضوائه لكونه مسيحيّاً.
كان مع ذلك قد حاول تقديم كلّ ضمانات الولاء، بما فيه حتّى آخِر ما يُنتظَر منه. وسيرجع بعدذاك نحو اللغة العربيّة، متابعاً دروساً في اللغة والقواعد دون أن يتوصّل مع ذلك إلى شيء غير تقديم ضمانة لمصداقيّته. سيقال لي: وما شأن الرسم في كل ذلك؟ الرسم بكل بساطة هو ما يَرْسُم.
ما أدركه عبّود في نهاية الأمر ليس إلّا ذكرى السعادة أو ما يمكن أن يساعد في استعادتها.
وسيكون تَذكّر الرسم كافياً لأن يُعاد، في جوف القلق، اكتشاف ذلك الذي كانه والذي ربّما لن يستطيع إلّا الاعتقاد بأنّه قد أعيد اكتشافه في ما يتجاوز هذا الربع القرن من الحرب في لبنان.

شفيق عبود، باريس، 1986

شفيق عبود، بيروت، 1987

محترف شفيق عبود، باريس، 1977

شفيق عبود، باريس، 1986