top of page

قرم، داود

غزير (لبنان)، 25 حزيران/ يونيو 1852 – بيروت، 6 حزيران/ يونيو 1930

ولد داود قرم في غزير، وتسنّى له بالتأكيد أن يلتقي في دلبتا المجاورة، الرسّام كنعان ديب. فقد لعبت دلبتا بالفعل دور مركز فنّ الرسم والثقافة بمختلف تقاليدها المتعلّقة بحياة الأديار وشبكاتها.

في ذلك الزمن، لم يكن يُفهم من قدوم اليسوعيّين (الجزويت) إلى لبنان أنّه يعني مجيء إيطاليا، حتّى لو كان القادمون إيطاليّين، بل فرنسا. وقد سعى شارل قرم، وهو يخلق الأسطورة حول والده، إلى ربطه مباشرة بإيطاليا عصر النهضة، تبريراً بالصورة للقول بتواصل في تاريخ الفنّ. فهو بجعل والده مؤسِّساً للفنّ في لبنان، يكون قد حجب تاريخيّة هذا الفنّ وحال دون أيّ قراءة للنقلة من الفنّ الديني إلى الفنّ الدنيوي، في تلازمها زمنيّاً مع انتهاء الدوران في حلقة «الاكليريكيّين الرسّامين».

يطرح قرم مسألة تاريخيّة الفنّ في لبنان في صدد الكلام على تفاعل الفنّان وزمنه: فهو استقرّ في البلد لممارسة طويلة في الفنّ على مدى جيلين، من عهد المتصرّفيّة حتّى الانتداب الفرنسي. كان فنّه، الذي غالباً ما يؤوَّل خطأً كبقاء نوع من الكلاسيكيّة المحدثة أي النيوكلاسيكيّة في لبنان، مرتبطاً فعليّاً بتكوين فريد تماماً. فليس من الممكن ألّا يُرى فيه سوى مظهر لبروز الفرد، الشخصيّة، بالتالي لفنّ اﻟﭙﻮرتريه، في هذا القرن التاسع عشر اللبناني المشرَّع تماماً للنهضة العربيّة، المستنسخة عن الإيطاليّة، والتي أحيت الكثير من الآمال، كما حملت الكثير من الخيبات والانجازات.

كان قرم قد اختار أن يدرس الفنّ في روما في وقت لم تعد اللغة الإيطاليّة، في الشرق، حتّى بالنسبة إلى الكهنة، «لغة الفرنج» lingua franca. هل أراد تكرار النهضة الإيطاليّة في بيروت إبّان تطوّرها المديني العارم حيث استقرّ بعد إقامة قصيرة في مصر؟ كان يحدوه آنذاك طموح لا يتعدّى مؤدّى الاستنساخ. وعلى أيّ حال، لم تكن المسألة مطروحة عليه على نحوٍ نظري وشامل، لأنّه كان عليه أن يلبّي طلباً مدنيّاً ودينيّاً. فقد كلّفته صداقة البطريرك حويّك، الذي كان قد التقاه في روما، أن يلبّي بالفعل قائمة من الطلبات للأديرة والكنائس.

يبدو اشتغاله على الصورة وعلى تأليفها الصدى الأخير للنغمة الدينيّة الإيطاليّة الأولى التي انبثقت عن الاصلاح المضادّ الكاثوليكي، ردّاً على الاصلاح اﻟﭙﺮوتستانتي، الواقع عبر استخدام الصورة تحت تأثير الجزويت. كان عليه أن يختار بين جيوستي Giusti وكنعان ديب، بين إيطاليا وتقاليد الفنّ الديني الماروني. وهو، على الرغم من أنّه كان يعيش في بيروت، ظل منفتحاً، باتّصالاته وحساسيّته، على جبل لبنان حيث وُلد. لقد واصل تيّار فنّ الرسم الديني الإيطالي، وشارك بنشاط في نشوء المجتمع المدني، حتّى مع كون أعماله تتوزّع في مواضيعها بين رسم شخصيّات، ومشاهد للطلب العامّ، ومناظر طبيعية.

وفي هذا الصدد، لماذا لم يتأتَّ بالأحرى لسرور أن يلعب الدور الذي كان لقرم؟ لنبدأ بتصويب تفسير شائع يكفي أن نقارن بين التواريخ لإثبات عدم دقّته: قيل إنّ سرور، أستاذ اللغة العربيّة في المدرسة السلطانيّة، أبدى اهتمامه بفنّ الرسم لدى تردّده إلى تدريس أولاد داود قرم اللغة، فشجّعه الأخير على السفر لدراسة هذا الفنّ في إيطاليا. أمّا التفسير الحقيقي فقد يكون سوسيولوجيّاً: كان سرور حلبي الأصل من طائفة الروم الكاثوليك. وهو لم يكن ليجد في بيروت وجبل لبنان مكاناً لتحرّكه في وسط اجتماعي مألوف. كان قد عاش في روما، وفي ناﭘﻮلي، ثمّ في مصر، قبل أن يستقرّ في لبنان. عدا أنّ طبعه البوهيمي والعصبي، وموهبته الحسّاسة والمتوفّزة، كانا على العكس من طبع قرم، الوجيه المطْمَئنّ إلى وضعه.

 في المحصّلة، كان لعبُ دورِ قرم يتطلّب التوفّر له. والحال أنّ سرور كان منصرفاً تماماً إلى الفنّ، كما كان يفهمه. في حين أنّ قرم كان منصرفاً إلى نفسه ليس إلّا، يفهمها ويعيشها على نحوٍ مختلف. قد يبدو لنا ساذجاً، على أنّ الصفة هنا تكون حميدة، لأنّها أتاحت له مُساءلة كلّ لوحة جديدة بنظرة جديدة. لا نقاش في أن لديه أعمالاً قابلة للتصنيف حسب تناظرها، وتنويعات على الموضوع وعلى تشكيل الصورة، لكنّه يترك مع كلّ لوحة شعوراً بأنّه يعاود تَعَلُّم الرسم، لا لكشف سرٍّ ما، بل لامتلاك الحِرفة، تشكيل اللوحة، المشروع ومعالجته. مرجعه ثقافيّاً وتصويريّاً غير مُرتهَن لاستمراريّة نوع، بل يعود إلى اصطفاء يستند إلى الذوق السليم، وحتّى إلى اختيار الصورة.

رفايللو Rafaël وتأثير إيطاليا: هوذا الإطار الذي خرج قرم منه شيئاً فشيئاً، في مبالغة من الشحن بالصُوَر، بين تزيين وسذاجة. ما عاشه في مواجهة الفنّ الإيطالي كان قد عاشه قبله موارنة آخرون، لكنّه كان الأوّل في إقامة علاقة مباشرة مع التصوير الفوتوغرافي الذي كان يحبس فنّه في طلب التشابه. ولعلّه كان يمكن تلخيص طريقته بما قد يبدو تقسيم صورة فوتوغرافيّة مربعات واستنساخها. كان يطلب تشابهاً يتجاوز التشابه حيث يعاد النظر ليس في هذا الأخير بل في الفنّ نفسه. على أيّ حال، لم يكن يفهم المسألة إلّا من منطلقات حِرَفيّة.

سرور وجيوستي وموراني، والأخير، بعض الشيء، أقلّهم تأثّراً بصدمة إقامته الباريسيّة، كانوا يتوَخّون في عملهم شيئاً من الابهار ورغبة في إبراز براعة ما، لعلّها كانت السبيل الوحيد لتعامل فنان يدهمه الوقت ردّاً على ما يجيئه من طلب. كانت المسألة، في حالة سرور، مطروحة على المستوى الأكثر تشابكاً الذي يخصّ مسألة العلاقة مع الفنّ نفسه. استطاع داود قرم أن يقرأ هذا الفنّ ويتقنه إلى حدّ أنّه، بطبيعته وطبعه، وجد في اختباريّة المؤدّى جانباً فنّيّاً كان بعيداً عن اهتمامه. من ذلك، حاجته إلى اللمسة التي تبرز الأنف، مؤدّى العين، أقراط الأذن المشغولة في معجون اللون. وكان الاشتغال على بقيّة رسم الشخص يتعلقّ في نظره بمفردات اللغة الفنّيّة، كمؤدّى أنواع النسيج والملابس الحريريّة، تغيّر الأشكال، خاتم الاصبع، لكنّه يتعلّق كذلك بمفردات أخرى، تثير، في أفضل رسوم الأشخاص واللوحات، ارتعاشة ضغط من المؤدّى، كطريقة لإخضاع محيطه له على نحوٍ يبرز حضور الشخص المرسوم. طريقة شغل أقلّ سذاجة ممّا قد يبدو منها، كتقنيّة شرقيّة قديمة في مجال لم يعرف أبداً، تقليديّاً، دوراً للمنظور.

كان رسم الأشخاص دائماً مسطّحاً، وكان يكفي حضور زاوية طاولة، وكتاب موضوع هناك، وذراع تستند إلى كنبة للإيهام باعتماد المنظور. إنّه كناية عن اصطلاح؛ لا علاقة له هنا في شيء مع استخدام محتمل لقواعد عصر النهضة، بل إنّه يتعلّق بالتصوير الفوتوغرافي، وهذا، على أيّ حال، لا يستبعد أن يكون أشخاص قد جلسوا لقرم كنماذج. كان ذلك من أجل أن يتمكّن من تجميدهم، والتقاط درجة الزاوية في الخطّ وشكل استدارة ممتلئة، بهدف إبراز أفضل لأهمّيّة اللون.

كان من شأن ميل قرم، بِهَوَس وافتتان، إلى التفاصيل، إلى الدقّة، إلى مؤدّى الخطوط، أن جعل شغله أقلّ اهتماماً بإبراز المهارة منه بتثبيت نسقيّة تتيح بعض اللوحات إظهار مراحلها. استخدام صورة فوتوغرافيّة، وتقسيمها إلى مربّعات ونقلها، ودهان اللوحة بضربات فرشاة عريضة من بعد شغل دقيق على الوجه، إنّها مراحل عمّمها قرم على كافّة ﭘﻮرتريهاته. بماذا كانت هذه الأخيرة تتميّز من اﻟﭙﻮرتريهات التقليديّة المعاصرة لها، وحتّى من التفارق اﻟﭙﻮرتريه الأوروﭘﻲ كما تسنّى لقرم أن يتعلّمه ويحقّقه عمليّاً؟ حتّى اﻟﭙﻮرتريه تلبيةً لطلب، مهما كان شغله سريعاً وغير ذي شأن، كان، عند قرم، يستبعد بشكلانيّته إغفال توقيع الراسم، العلامة التي تنأى باللوحة إلى مستوى حلّ شكلي، عبارة، أحياناً، عن خلفيّة لونيّة بسيطة، أو عن شكل قد يكون منفَّذاً بدقّة أو مشغولاً بتسرّع زائد كواجهة أماميّة.

حتّى لو نسبنا إلى داود قرم بعض الأعمال التي نفّذها، وهو بعدُ فتى يافع، بالاشتراك مع جيوستي في بزمّار، فهو ينضم إلى تقاليد الفنّ الديني واﻟﭙﻮرتريه التي يُعتبَر كنعان وموسى ديب مُمثِّلَيْها الأكثر شهرة، إذ ذكرهما بالاسم مُدَوِّنُ أخبار ديرهما. خاصّيّة الفنّ اجتماعيّة - ثقافية؛ وهي لا تجد تفسيراً لها في علاقة شرق/ غرب أو في تدرّب شرقي على الغرب. فمن البديهي أنّ مثل هذه التبسيطات الموفّقة لا تمتّ إلى الموضوع بصلة. إنّها بالأحرى تحيل إلى طريقة جامدة في إدراك الزمن وإلى وظيفة اجتماعيّة للفنّ.

الرسم في زمن مجمَّد هو الينبوع التقليدي الذي لا يتعلّق، عند قرم، بالتشابه وحسب، بل كذلك بالطابع التقني والخاصّ بالرسم، وبالمؤدّى وقد دُفِعَ به إلى حدّ هلوسة الادراك الحسّي. هنا تحديداً يكون الرهان واقعاً على فنّ ﭘﻮرتريه سحري، عبر وعي ينسب إلى الفنّ قدرة يكتنفها الغموض. ذلك باعتبار أنّ خلق الوجه يعني تَمَلُّكَه. يكون قرم في أوج تأثّره عندما يتولّد لديه، ببطء، الاحساس بالمؤدّى مقترباً من التشابه. كان حينذاك يقع مجدَّداً على العمق الشرقي لفنّ اﻟﭙﻮرتريه، كفعل خلق لا يستمدّ سحره من العناصر التصويريّة وحدها. ليس في ذلك ما هو غامض عدا سرّ مهنة تُمارَس عن اقتناع. حتّى في مجموعات اللوحات حيث تتمثّل صور الملائكة المتعارف عليها، مستنسخة عن سقف كنيسة Sixtine في الفاتيكان، ما نراه هو، بالطبع، ملائكة ممتلئة وموردة الخدّيّن، لكنّها كذلك الاستعارات البصريّة الخاصّة بفنّ قرم نفسه. وكلّ ذلك يستهدف التصميم المشهدي للتمثيل، خصوصاً في اللوحات الدينيّة الكبيرة التي اشتغلها قرم بالرجوع إلى تنويعات تقنية، متقيِّداً حتّى بتجمّدات المؤدّى.

كان قرم ينتمي إلى تقاليد لا يتناسب الولع بالفنّ فيها مع ما كان في وسع الثقافة الفنّية الاوروﭘﻴّﺔ في عصره أن تُقدِّمَه له. لم يُقِم قرم في حياته، في حدود عِلمنا، معرضاً فرديّاً له، وهذا لا يعود إلى دواعٍ مبدئيّة أو متعلِّقة بحسابات تجاريّة، بل لأنّه كان مندمجاً في دائرة يَضمُّه إليها واقع المهنة في إطار مرسمه أو في المجتمع اللبناني. لم تكن الأمور كلّها، في واقع الحال، تسير وفق هذا التصوّر المثالي: كان قرم يجد نفسه أحياناً، ويشتغل، كمَشْغَل لصنع رسوم كرومو chromo ملوّنة بالطباعة التجارية ونسخ لوحات شهيرة عن مستنسخات عنها. يصح عندئذٍ أن يقال إنّ الفنّ، في نظره، لم يكن يتعلّق إلّا باعتبارات تجاريّة.

إنّ مسار داود قرم الطويل والمتشابك يقدِّم لنا فرصة لإدراك كيف لنسق من شغل الفنّ أن يكون، أيضاً، طريقة في الرسم وفي الدلالة على المقصود تمثيله، في انتقاء ما يُراد وضعه في اللوحة، والعمل على بنائها. وحتّى ﭘﻮرتريهاته، وقد أراد بعضهم ألّا يرى فيها سوى مجموعة مثيرة للاهتمام من الوجوه الشرقيّة، لا يمكن تصنيفها في إطار فنّ استشراقي. هو، فعلاً، يفتقر إلى وعي المسافة. كان فعل الرسم يُقدِّم، له تحديداً، إمكانيّة ملء المسافة بين الرسّام ونموذجه، كيلا يعود هناك من مسألة مطروحة سوى مسألة الفنّ.

إستقامة الحِرَفي، أم لباقة التاجر، أم، ببساطة، رغبة في تحقُّق طموح الفتى الذي كان يرسم على الصخور عصافير يريدها أن تزقزق. كان يعرف أن ليس في الوارد أن يكلِّم المجتمع اللبناني في شأن وضع حدّ للعمل الحِرَفي وبلوغ عالَم يكون الرسم فيه فنّاً، لأنّه، في المقام الأول، يصير إلى ما بعد التقليد الذي كان يستنفد كلّ التنويعات عليه، من نسخ الصورة الدينيّة إلى استنساخ الصورة المألوفة والمتداولة التاريخيّة.

كان قرم يعرف ذلك، كما كان يعرف كذلك أنّ صورة المجتمع اللبناني كانت لا تزال رهن الآتي، وليس التعويل في تأسيس هذا المجتمع على فنّ اﻟﭙﻮرتريه، إنّما الأمر يتعلّق بإعطائه فسحة خيال. كانت بيروت، بالنسبة إلى قرم، المكان الرئيس، باعتبارها عاصمة الولاية ونقطة تجمّع المجتمعات المدنيّة والدينيّة التي ستجعل منها مدينة وبلدا. كانت هذه المجتمعات المتباينة تشكِّل أساس زبائنه. وقد تكيّف مع كلّ منها، وفق المخطَّط الثقافي الذي كانت تقترحه والانعكاس الذي كانت تنتظره من المرآة.

استطاع قرم، في الحدّ الأقصى، أن يخلق شروط وجود سوق للفنّ، ووصل به الأمر، من أجل ذلك، إلى استيراد منتجات وموادّ للفنّ، مستقبلاً في مرسمه في محلّة خندق الغميق القريبة من طريق الشام من كانوا يقصدونه من أجل ﭘﻮرتريه، أو لشراء لوحة، وفي الوقت نفسه من كان يأتيه من المثقّفين رغبة في مناقشته.

كان يوجد في لبنان في ذلك العهد مجتمع يدفعه رفاهه الاقتصادي إلى النضال أيضاً، في غياب خيار أفضل، بالصورة الفوتوغرافيّة والرسم، ضدّ الموت. فمع بدء الوعي بوجود الموت، يظهر الوجه، بالفعل، كحاجة اجتماعيّة. لم يكن قرم يقدّم لهذا المجتمع إلّا ما ينتظره.

يذهب قرم أبعد من جيوستي أو اﺳﭙﻴﺮيدون، بل غالباً ما كان فنّاناً حيث لم يكونا. فهو تعلّم من الفنّ الإيطالي أكثر ممّا تعلّمه من أكاديميا سان لوكا Academia San Luca ومن بوﻣﭙﻴﺎني Bompiani؛ هذه اللحظة السرّيّة من الرغبة في اللون والشكل، حيث يرجع كلّ فنّان إلى كونه متدرِّباً على السرّ الذي لا جواب عنه غير فنّه. لذا وضع يده في مكان ما على حقيقة تخصّ الفنّ، على أصالة في صدى تقاليد إنتاج الصورة الدينيّة كإنتاج اعتباطي لنسق. لكنّه، وقد استولى عليه الخوف من كونه ينافس خالق الصورة، لم يكن في وسعه إلّا أن يكرِّس نفسه لصنعها ليس إلّا. وفجأة كانت تعود إلى الظهور هرطقة تحطيم الصور ويتكرّر إلى ما لا نهاية النقاش الذي أنهك بيزنطيا.

كان داود قرم فنّان المتصرّفيّة مثلما كان سرور فنّان الولاية. كذلك كان الجميّل وفرّوخ وأنسي رسّامي الانتداب. لكنّ المسألة الحقيقيّة هي في كونهم جميعاً فنّاني الفنّ باعتباره استعارة مجازيّة، وليس في كلّ ذلك أيّة كناية.

يمثّل داود قرم، في المقام الأوّل، قسوة التشابه وما يطرحه على نحوٍ جذري يبقى نموذجاً للتشابه. من الواضح تماماً أنّه لا يفتقد الموهبة، في ظَرف كان يحول دون اكتساب القدرة على الظهور بالاقتصار على موهبة فنّ القدرة على الوجود ليس إلّا. ليس هذا ما كان يشكّل الرهان والمعترَك في هذه الوهلة الطويلة التي دامت أكثر من قرن ولم تكن سوى تسلسل مجازر وجرائم قتل. إنّه المجتمع اللبناني متحوِّلاً.

كان داود قرم مجنوناً بحبّ ابنته الثانية ماري، التي تزوّجت من فرنسي وذهبت لتستقرّ في مرسيليا في منزل على الجانب الآخر من البحر الأبيض المتوسّط ومعها بعض اللوحات من والدها كتذكار للحبّ وللفنّ. كانت تبتعد أكثر فأكثر عن الذي كان كلّ شيء يقرّبها منه. هذا النحو من الهرب من الحبّ كدقٍّ على كافّة الابواب وككشف لكلّ الأوراق، أربع أوراق أَسّ أتعبها انتظار شريك آخر في اللعبة لن يصل أبداً. 

أسّ البستوني ينهي الدور، والوقت قد فات بالفعل. يودّ ابنه شارل أن يوهمنا أن لبنان كان يفتقد الفنّ قبل أبيه. لذا يوقف النقاش مستبقا كلّ طرح للمسألة لاحقاً، حتّى لو أنّه يشارك فيه جزئيّاً لافتاً إلى وجود الفنّ الديني دون أن يتطرّق إلى التفاصيل إطلاقاً.

ينجو الفنّ الديني إذاً من النسيان بفضل التقاليد التي أخذها أبوه على عاتقه، لكنّ هذا الفنّ لا يتوصّل، لفرط ضيقه وعدم كفايته، إلى الاضطلاع بتاريخ العلاقة المتعدّدة الأشكال والمتشابكة مع التمثيل ومع الصورة.

ويبدو أنّ جميع الفنّاني اللبنانيّين يكرّرون إلى ما لا نهاية الحلول نفسها والمسألة نفسها التي لا تتغيّر. المتغيّرات الوحيدة هي المعطيات السوسيولوجيّة والعائليّة والثقافيّة.

 كلّ هذا يتكرَّر في مواجهة الجدار وفي مواجهة اللوحة، أي ما آل التكرار إليه من تكرار مُدوِّخ. الفنّانون هم الفنّان نفسه الذي يرسم بينما الفنّ نفسه يعيد، مبتلعاً العار كلّه، تقطيع الاسم.

الخالق الغامض الذي يبوح بكلّ سرّ الخليقة وبالحقيقة بات نهائيّاً في مكان آخَر وهو لا يتكلّم هذه اللغة.

داوود قرم.jpg

داود قرم، 1895

bottom of page