
جورج سير، معهد الآثار الفرنسي، بيروت، 1947

جورج سير، جورج شحادة، 1936

جورج سير، منظر، دون تاريخ

جورج سير، معهد الآثار الفرنسي، بيروت، 1947
سِير، جورج
مونتجيرون (فرنسا)، 3 حزيران/ يونيو 1881 – بيروت، 4 تمّوز/ يوليو 1964
كان جورج سِير قد بدأ يشتهر في باريس عندما ترك فرنسا إثر مأساة شخصيّة، سنة 1934.
إختار، بالمصادفة تقريباً، لبنان، حيث قُدِّر له أن يُمضي سبعة وعشرين عاما. وابتداءً من هذا التاريخ باتت أعماله كلّها مكرَّسة للبنان. كان قد جاءه مصادفةً وأقام فيه استمتاعاً.
لم يعرف منذ بدء إقامته أيّة مشكلة في التكيّف وأحيط بحلقة من الأصدقاء المقرَّبين، لبنانيّين وفرنسيّين مقيمين في لبنان: جورج شحادة، أنطون تابت، غابريال بونور Bounoure، جان ﺷﭭﺮيّه Chevrier، هنري سايريغ Seyrig. كان يشتغل ضمن تيّار آخِذ بالحداثة، طليعة ذات لون محلّي، منتدى مختصر في حدود ما يتيحه المجتمع اللبناني. إلّا أنّ كلّ هذا سيغدو أكثر صعوبة منذ أن بات يتعيّن عليه، بحكم وظيفته – شغل لعدّة سنوات وظيفة مستشار فنّي لدى السفارة الفرنسيّة – أن يكون الدليل شبه الرسمي لجمهور فرنكوفوني يظنّ نفسه، لفرط براءته، في مركز دائرة الذكاء والذوق السليم. كان يسود في هذا الوسط، أقلّه حتّى نهاية الانتداب، ميل إلى الاستمتاع بالحياة بكياسة. وسيكون سِير مصنَّفاً كممثِّل للمجتمع الانتدابي في حين أنّه كان بالأحرى في موقع الصدع بين الانتداب والاستقلال وأراد أن يكون صلة وصل بين المرحلتين.
كان، على غرار سايريغ، قد أصيب بالعدوى العجيبة، أي تَذوُّق الحياة في بيروت، الضاحية الريفيّة الأقصى، بالنسبة إلى باريس، لكن أيضاً الاختراق الأقصى من جهة آسيا. في حين أنّ سايريغ لم يجد فيها إلّا نمطَ عيش وتطلُّبَه المُلِحّ أن يحقّق ذاتَه في صحراء خالية، كان سِير يكتشف فيها حلقة من الشبّان اللبنانيّين الطموحين، الذين كان يمثّل بالنسبة إليهم باريس والطليعة، أو، أقلّه، ما كان يُخَيَّل إليهم في شأن باريس.
تعيَّن عليه إذاً أن يلعب الدور الذي أنيط به. صار ممثِّلاً للحضور الفرنسي في لبنان وسَحَرَ المجتمع الذي احتفى به إذ رأى فيه المِرآة لما يبرّره.
كان على الفنّانين يومذاك أن يكسبوا عيشهم من بيع لوحاتهم، وكان هناك بالضرورة جانب من الحِرَفيّة في إنتاج التصوير. كان سِير رسّاماً ذا حِرْفة أكثر من كونه ذا مهنة، وذا مهنة أكثر من كونه ذا خَلْق، لكنّه استطاع أن يحفظ بهجة هذه المهنة وممارستها. فهو نقل اللون المحلّي حتّى إحلاله في حلمه الخاصّ، الذي انتهى إلى أن يُظهِر له رسمه كمحاكاة متهكِّمة بلا فائدة تُرتجى منها، كوهم دائم التغيّر.
كان يبيع رسوماً مائيّة لكسب العيش. وهذا كان شأن أنسي وفرّوخ اللذين كانا، كذلك، يرسمان مناظر لبنانيّة أو مشاهد من مواضيع تقليديّة لمشترين أثرياء. أقام سِير علاقات صداقة مع أنسي، الذي كانت زوجته، الألزاسيّة والمربّية في روضة الاطفال التابعة للكلّيّة اﻟﭙﺮوتستانتيّة تجد وسيلة ليتمكّن زوجها، بين الحين والحين، من بيع مائيّة لأحد الأساتذة أو لسائح صديق. وكان أنسي من جهته منزوياً بالنسبة إلى الحياة الاجتماعيّة عامّة ولم يكن ليشكّل وجهاّ منافساً في الأوساط التي كان سِير يخالطها. كان أنسي وفرّوخ والجميّل قد درسوا في باريس، ولم يكن سِير ليأتيهم بالدروس.
اندمج بسرعة في نسق الفنّ والحياة الاجتماعيّة لدى الشريحة المثقّفة من المجتمع الفرنكو ـ لبناني. وكان موقع فرّوخ عند حدّ الصدع بين المجتمع العربي الذي ينتمي إليه، والذي يؤمّن له زبائنه، ومجتمع فرنسي يرى أنّه مضطرّ للتعامل معه، لا بدافع دروسه في باريس، بل لأنّه يمثّل جمهوراً من المشترين المحتملين. أمّا الجميّل، الناشط في أوساط المثقّفين، فكان في نظر سِير رسّام واجهة الحياة الاجتماعيّة مكرِّساً نفسه لاستسهال رسم اﻟﭙﻮرتريهات على الطلب. لم يكن يخالط الوسط نفسه،وكان من البديهي ألّا يلتقي عالَماهما. كان الجميّل رسّام برجوازيّة لبنانيّة يشخّص في نظرها فكرة الفنّ والفنان، بالاختلاف عن رسّام مثل سِير تَعتبِره من بوهيميّي باريس. إلى ذلك، كان سِير يرى في الجميّل عودة إلى الانطباعيّة البهيجة التي لم يكن لها من مبرِّر بعدما مضى الزمن عليها.
مرّ سِير آخِر الأربعينيّات بأزمة عنيفة حول التَساؤل عن مكانه في تاريخ الفنّ المعاصر. باتت قضيّته الكبرى تدور حول حواره الصعب مع التكعيبيّة، حواراً في تفارق زمني، وتكعيبيّةً كما فُهِمت في الثلاثينيّات، لكنّها، في حالته، ظلّت تلذعها بلا هوادة سياط حرارة البحر الأبيض المتوسّط وضَوْئه، كما سياط شهوانيّة بات عاجزاً عن ترجمتها إلى مائيّات.
فبعد أن استنفد العمل على المنظر الطبيعي اللبناني بالرسم المائي واستكشف كلّ تجاوبات صدى النوع على هذا المستوى، بات يتوق إلى ما هو أكثر بُنياناً، إلى ما كان وازناً بالنسبة إلى تاريخ الفنّ.
بعد الانتهاء من فصل المائيّات ذهب اهتمامه إلى باريس مجدَّداً كمعترَك ضروري. كان يسافر إليها مرّة في السنة، ليعرض فيها ضمن خطّ تساؤلات مابعد التكعيبيّة. كانت حساسيّته إزاء الضوء آتية من مخزونه القديم كرسّام حانات ضفاف نهر المارن مكتشفاً الشرق مع البقاء على تطلّعه نحو باريس، ولو لمجرّد أن يبدو «على اطّلاع» في نظر اللبنانيّين. لكنّه، مع ذلك، وبالاختلاف عن أنسي، كان يبذل كلّ جهده في مساءلة نفسه، ويعتبر أنّه لم ينل من المائيّات جواباً عدا الشهوانيّة اللامبالية حيث ينتهي فنّ الرسم إلى كونه لا أكثر من تمرين على الاكتفاء باستمتاع حسّي استنفدته المشاهدة.
حاول سِير أن يصون نفسه من ذلك بالتشدّد القسري في بنيان تكعيبي مُدرَك عبر قراءته للثلاثينيّات وعبر المحاولات، المحوَّلة دوماً عن وجهتها، لاندماج مع طليعة لم تكن، في الواقع، إلّا الواجهة التجاريّة لبلد تحت الانتداب يحرص على محاكاة المركز المنتدَب. لكنّ أعماله العائدة إلى أواخر الاربعينيّات كانت في أغلب ألاحيان بالغة الجودة في تيّار ما بعد التكعيبيّة، دقيقة البنيان وواضحة، معتدلة وأنيقة.
كانت عناصر مواضيع أعمال سِير فرنسيّة بامتياز، وكان يستعين بما كان قد تعلّمه. كانت التكعيبيّة بالنسبة إليه البنية الوحيدة الممكنة، القاعدة الوحيدة للحداثة في فنّ الرسم.
هل راوده الطموح إلى التجديد في تكعيبيّة تركيبيّة بالنسبة إلى نجاحات لوت Lhote ورواج التكعيبيّة الجديدة néo-cubisme بعد الحرب العالمية الثانية، هو أراد دائماً، مغالباً اليأس، أن يكون معترَفاً به في باريس، معتركه الوحيد والضروري، في وقت كان، في لبنان، يحرص على أن يحافظ، بحيويّة وخصوبة، على حضور ثقافي فرنسي كان مساعداً لعدد غير قليل من الرسّامين اللبنانيّين الشبّان، ولو بتمايزهم عنه، بعد خضوعهم، في مرسمه، لقولبة كانت في غالب الاحيان قسريّة.
تسنّى لسِير، بعد الحرب العالميّة الثانية، أن يقيس التباعد بين وضعه وزمنه، وأعاد تقويم ما حقَّقه شخصيّاً في مجال الفن. لقد أراد أن يمتزج بالحياة في لبنان. وسواء أكان راغباً في الأمر أم لا، لقد ساعد في طرح و تفعيل فكرة فنّ لبناني من عمل لبنانيّين. ولا يمكن إلّا أن يكون قد طرح على نفسه السؤال المقلق عن مكانته في تاريخ الفنّ وتاريخ الفنّ في لبنان. وفعلاً، إذا أمكن القول بأنّ لا مكان له في هذا الأخير، فذلك فقط لأنّ مجرى الأمور على هذا النحو لا وجود له.
كلّ رسّام، في آخِر الأمر، مصادفة؛ مصادفة حسنة عندما يأتي بشيء جديد. وربّما كان لسِير، في تجربته اللبنانيّة، مجرى تاريخي حقيقي ارتباطاً بحضوره، وتأثيره، وفي ردّ فعله بالنسبة إلى مناخ وبلد، مشاركاً في حياته الثقافيّة على مدى فترة طويلة بما يكفي لجعلها ذات دلالة.
أقام جورج سِير معارضه سنة 1935 و1938 في فندق سان جورج في بيروت؛ ومن 11 إلى 28 شباط/ فبراير 1949 ومن 10 إلى 21 أيّار/ مايو 1950 في مركز الدراسات العليا في بيروت؛ وفي شباط/ فبراير، ومن 16 إلى 30 حزيران/ يونيو 1954 في صالة الفنّ الحيّ Art vivant في باريس؛ وفي كانون الأوّل 1954 في صالة فريتز غوتهلف في بيروت؛ ومن 25 تشرين الأوّل/ أوكتوبر إلى 12 تشرين الثاني 1955 في صالة الفنّ الحيّ في باريس؛ ومن 13 إلى 19 أيّار/ مايو 1956 في مركز الدراسات العليا في بيروت؛ ومن 5 إلى 20 نيسان/ إبريل 1957 في صالة ﭘﺮﺳﭙﮑﺘﻴﭫ Perspectives في بيروت؛ وفي سنتي 1960 و1961 في صالة أليكّو صعب في بيروت.
وكرِّس له «معرض استعادي 1933 – 1962» سنة 1962، في «مركز الفنّ المعاصر» في بيروت، ومعرض سنة 1963 في جريدة لوريان L’Orient الصادرة بالفرنسيّة في بيروت.
جعل جورج سِير من بيروت باريس ـ الضدّ في الإطار الانتدابي ثمّ في إطار مواجهة المدينة والريف ما بين الثلاثينيّات والستّينيّات بما تحمله السنوات معها من موضة دارجة، وتيّار جارف، ورحابة، وثقل، إلى القليل من غير المنتظَر.
لم تكن مصاريع نوافذ مرسمه تفتح إلّا لجهة البحر، وهذا كثير لكن هذا كلّ شيء. تماماً كما لو أنه كان ليجعل من باريس بيروت ـ الضدّ نظراً إلى أنّه الوحيد الذي كان تموضعه المزدوج يمكّنه، على مدى أكثر من ربع قرن، من أن يتنقّل بينهما ذهاباً ـ إياباً، أقلّه ذهنيّاً، بوتيرة منتظمة.
يتعيّن علينا في أكثر الأحيان ألّا ننسى أنّ وراء سِير كان هناك غبريال بونور، وشحادة، ونقّاش، والثلاثينيّات. وهو أتى كذلك بإمكانيّة مساءلة اللوحة وقراءتها، وكيفيّات هذه القراءة وسوابقها.
لم يكن هذا من الممكن أن يَرِدَ في الحسبان حتّى ذلك الحين في المجتمع اللبناني. لم يكن هناك سوابق تاريخيّة في النقد الفنّي، بل الترتيب البطيء، وفق تخطيطات الصالونات والمعارض الأوروﭘﻴّﺔ العائدة إلى القرن التاسع عشر، والمعارض الآخذة بالانتظام إلى هذا الحدّ أو ذاك ابتداءً من الثلاثينيّات في مدرسة «الصنائع والفنون»، أو مقر الحِرَف اللبنانيّة، أو مباني وزارة التربية الوطنيّة في الأونسكو.
وستضيف المعارض الفرديّة إلى ذلك ممارسات أخرى بإحلال الثقافات الاجتماعيّة - الثقافية الطائفيّة في تفاعلها مع التطلّع إلى ثقافة وطنيّة. ويشهد تاريخ هذه الممارسات الثقافيّة أيضاً الهيئات الرسميّة خلال الخمسينيّات والستّينيّات، ومختلف الجوائز التي تقدّمها وزارة التربية الوطنيّة والمؤسّسات شبه الرسميّة أو البلديّة.
وتشهد الخمسينيّات كذلك ولادة صالات العرض الأولى خارج نطاق قاعات الفنادق أو صالات العرض المستأجرة.
وسيبقى الرسم شغل سِير الشاغل، لكنّه اضطرّ إلى تأمين لقمة العيش، بالنظر إلى قلّة المبيع، بفتح مرسم للتعليم، وكان هذا على أيّ حال مشروعه في الأصل، إذ إنّه حصل في السنة التي تلت استقراره في بيروت على ترخيص، شراكةً مع نِللي مارز ـ دارلي Nelly Marez-Darley.
وكذلك قدّم خلال الأربعينيّات سلسلة من حلقات إذاعيّة حول التأهيل إلى الفنّ في الإذاعة اللبنانيّة وشغل منصب مستشار فنّي في السفارة الفرنسيّة أواخر الأربعينيّات وأوائل الخمسينيّات.
التكعيبيّة والفنّ التجريدي كانا في المركز من مساءلته الحداثة، إذ كان يرى أنّ على التركيب الحذِر والذوق السليم اللذين طوّرتهما أن يقتضيا نحواً من التناغم أكثر من تطلّبهما بحثاً جذريّاً. وهذا ملاحَظ بصورة أوضح في لوحات مابعد التكعيبيّة في الخمسينيّات، حيث باتت القيم المبرزة والظلال لا تؤدّى إلّا عل نحوٍ تخطيطي.
كان قد قام ببعض المحاولات لإسماع صوته وللعرض في باريس ما بعد الحرب بين أندره لوت ومابعد التكعيبيّة. لكنّه، لدى عودته إلى بيروت، لم يستطع إلّا أن يتصرّف بأبويّة مع هواة «مركز الفنّ» مبحِراً ما بين فريتز غوتهلف ورينه دروان René Drouin.
الانخراط في زمن مهما كان ضئيلاً، في مجرى تاريخ وخاصّة في تاريخ الثقافة، كلّ هذا يبدو غاية في الإشكاليّة بهشاشة التكرار.
ثمّ ينبغي ألّا يغيب عنّا أنّ سِير كان في موقع منحرف بالنسبة إلى الفنّ اللبناني. فإذا كان قد أصبح فنّاناً لبنانيّاً، فهو باقٍ ذلك الفنّان الفرنسي في المجتمع اللبناني المتطلّع نحو باريس. كانت التكعيبيّة قد طرحت عليه الأسئلة والأجوبة الجاهزة في الوقت نفسه، بما تقتضيه التكعيبيّة من مساءلة حقيقيّة للوحة، كما أنّ مابعد تكعيبيّة الأربعينيّات والخمسينيّات كانت قد بدت له وسيلة أخرى لإعادة بناء اللوحة دون التنبّه إلى أنّها لم تعد إلّا نزعة أكاديميّة عائدة.

جورج سير، بيروت، 1962

جورج سير، بيروت، 1961

جورج سير في الوسط، بيروت، 1962

جورج سير، بيروت، 1962