
صليبا دويهي، دون عنوان، 1976

صليبا دويهي، بيروت، البحر المتوسط، 1976

صليبا دويهي، تجريد سرياني، 1972

صليبا دويهي، دون عنوان، 1976
دويهي، صليبا
إهدن (لبنان)، 14 أيلول/ سبتمبر 1912 – نيو يورك 21 كانون الثاني/ يناير 1994
عندما قرّر الفتى صليبا الدويهي، التلميذ في مدرسة الفرير Frères، في زغرتا، أن يكون رسّاماً، عقد الأهل والجيران اجتماعاً للتشاور حول أفضل السبل لمساعدته على تطوير مواهبه. وقادتهم ثقافة لبنان الشمالي، وتقاليد الرسم الديني، إلى أن يتوجّهوا إلى البطريرك الماروني بأن يسعى له بمنحة دراسيّة في روما. إلّا أنّ البطريرك الحويّك، في بكركي، فرض أن على الفتى صليبا، قبل السفر إلى روما – هذا ما واجهه، قبله بنصف قرن، داود قرم، مع فارق أن الأخير أقدم على السفر – أن يتدرّب أوّلاً على يد رسّام لبناني، وأرسله، مع رسالة توصيّة، إلى حبيب سرور، الذي كان يمضي الصيف في زغرتا.
تردّد صليبا الدويهي، بين السادسة عشرة والعشرين من عمره، على مرسم سرور الذي لم يكن غريباً على لبنان الشمالي. فهو قد اكتشف أهمّية المنطقة بالنسبة إلى الرسم وقام بفتحها أمام جبران الشاب، ورَسَمه. وتركّز تدريب الدويهي على أبجديّة التمثيل الكلاسيكيّة كما كان سرور نفسه قد درسها في ايطاليا.
وانتقل المتدرِّب من رغبته في أن يصبح رسّاماً إلى تحقيق صَبْوة الموهبة. حصل على منحة من الحكومة اللبنانيّة لمواصلة دراسته في باريس. نجح في مباراة الدخول إلى المعهد الوطني العالي للفنون الجميلة في باريس، وتابع دروسه فيه من سنة 1932 حتّى نيله الدﭘﻠﻮم سنة 1936. لم يكن أمراً بسيطاً الانتقال من لبنان الشمالي ومن تعليم حبيب سرور إلى التجربة الباريسيّة، لكن بالنسبة إلى الشاب الذي يهوى الرسم كانت التجربة تستحقّ أن تخاض.
جنّبت هذه الِاقامة في باريس الدويهي أن يعرف الوضع المأزوم الذي كانت الثقافة في لبنان تمرّ فيه في بدايات فترة الانتداب الفرنسي. فلو أنّه كان على صلة بهذا الوضع عن كثب، لما تسنّى له أن يعيه إلّا متأخِّراً، ولربّما كانت أعوزته إمكانيّات ووسائل الخروج منه، في حال كان من الممكن فَرَضاً تصوُّرُ مخرج ما. لقد واجه باريس بما حمله معه من بيئته التقليديّة، وأيضاً بأمله في أن يكون الرسم الديني بمثابة فرصته للانفتاح على الحياة المهنيّة.
لدى عودة دويهي إلى لبنان، بعد مروره بروما، عَهِد البطريرك عريضة إليه بتزيين سقف كنيسة بلدة الديمان التي كان غبطته في صدد بنائها. كان هذا الطلب المهمّ تأشيرة لعودة الرسّام إلى بشائر موهبته. انصرف إلى العمل مفعماً بروحيّة فنّ الرسم الكلاسيكي، وفنّ ميكلانج، ورافايل، والنهضة الإيطاليّة. وكانت التجربة مهمّة: كان هذا الطلب خطوته الأولى في سلسلة من الأعمال للكنائس لم يعالجها أبداً تبعاً للتقاليد، بل استمدّ منها المواضيع المفعِّلة لأعماله.
قد يكون شعر بالخيبة في مطلع الأربعينيّات عندما غادر الديمان، إلّا أنّه عاد إلى رسم اللوحة المسندة، والأهمّ أنّه شارك في الحياة الثقافيّة والفنّيّة وجال في كافة أنحاء لبنان. المسألة ، في نظره، واضحة. كان يريد تكوين فنّ لبناني يكون حاملاً الفولكلور وممثِّلاً المنظر الطبيعي والناس. وهذا كان هاجس الرسّامين اللبنانيّين في فترة الانتداب. كان مطلب الأصالة هذا، النابع من حاجة عميقة إلى هويّة، يفعل فعله على نحو متماسك، لكن في نطاق ضيّق بحيث يجد الفنّان نفسه، على مستوى الحساسيّة والفكر، وحيداً في مواجهة الموضوع، بلا صدى ولا عون من أيّة جهة: جمهوراً، وصالات عرض، وحياة فنّيّة حقيقيّة، وبكلمة، دون أن يشعر بكونه مُقدَّراً ومفهوماً.
كانت ردود فعل الدويهي عنيفة بالنسبة إلى الرسّامين المكرَّسين في ذلك الوقت، داود قرم، وسرور، وموراني، رسّامي اﻟﭙﻮرتريه وطلبات الكنائس، إذ كان يرفض أن يكرِّر ما يفعلون. عاد إلى لبنان الشمالي ليطرح مسألة علاقة الطبيعة بلوحة المنظر الطبيعي، آخذاً منذئذً بمعالجتها وفق نوع من انطباعيّة أقلّ أثيريّة، أكثر انبناء، بضربات ريشة عريضة حيث يظهر المؤدّى الخاصّ بالرسم كما لو أنّه أقلّ أهمّيّة من المؤدّى الحسّي. كان يصحّح غنائيّته الطبيعيّة عاملاً على تفكيك الضوء الفجّ بطريقة أقلّ اعتماداً على استنساخ صور فوتوغرافيّة للمنظر الطبيعي منها على الشغل التحليلي. كان برُسُوِّه في رغبته في امتلاك «شيء يخصّه» لا يستبقي شيئاً من فترة إقامته في باريس خلال الثلاثينيّات، أو من فترة ازدهار التكعيبيّة، أو ماتيس Matisse، أو الفنّ التجريدي. كان المؤدّى الحسّي وحده يشير إلى تطوّره بالنسبة إلى تاريخ فنّ الرسم، كتوافق حول تقنيّة معيّنة بانتظار رؤية أوضح، وإيجاد شيء آخَر يشكّل المادّة الخام للواقع. هذا ما جعله يقول لاحقاً: «منظر وادي قاديشا وحده يوفّر لي مادّة مئة لوحة تجريديّة». وجاءه النجاح بعد المعرض إلذي أقامه، سنة 1936، في صالات مبنى مجلس النوّاب اللبناني.
أتاه بالتكريس، سنة 1945، معرضه الذي أقيم في فندق سان جورج، بلوحاته عن الطبيعة اللبنانيّة والنساء الدرزيّات. كان الصدى تقريظيّاً من جانب الصحافة والجمهور. لبنان بأسره كان يجد في أعمال الدويهي، المرهفة والحسّاسة إزاء ألوان البلد ومشاكلاته، الصورة الأمينة لما كان أو لما يصبو إلى أن يكون. وبعد المعرض بقليل انتقل ليقيم في بيروت واستأجر مرسماً في شارع أورغواي. كان شعور الرسّام بالضيق يشتدّ مع تأكّد النجاح. عانى من صعوبة عيش أواخر الأربعينيّات ومن المناخ الثقافي في مرحلته الانتقاليّة؛ لكنّ شعوره بالضيق كان ناجماً كذلك عن شعوره بعدم القدرة على المضيّ قُدُماً. كلّ هذه الحفاوات، والزيارات، وإضاعة الوقت كانت تُوَلِّد لديه الانطباع بالانزلاق المتسارع على منحدر كان يخيفه.
ما العمل؟ العودة إلى باريس؟ لكنّه عاش فيها سنوات عدّة في شبابه، ومن عرف باريس في شبابه يكون لعودته إليها في سنّ النضوج طعم الرماد. لذا، عندما أرسلته الحكومة اللبنانيّة، سنة 1950، إلى الولايات المتّحدة الأميركيّة قام بالسفر بكلّ سرور.
كان شأن هذا الابتعاد أن يوفِّر له المسافة التي لا غنى عنها من أجل المراجعة والتحليل النقدي لعمله، وأن يتيح له تحقيق انطلاقة جديدة. وهذا ليس ممّا كان يستطيع أن يأمله من أوروﭘﺎ مابعد الحرب، في مراوحتها بين التجريد وحيرة قارّة تهجس بملايين الموتى.
كانت كافّة اللغات تبدو منتهية الصلاحيّة في الحساء الثقافي النيويوركي الذي انصبّ فيه سيل الانتلّيجنسيا الأوروﭘﻴّﺔ والفنّانون اللاجئون: ماتّا Matta، ماكس إرنست Max Ernst، زادكين Zadkine، ماسّون Masson، دوشان Duchamp. كان ينبغي الكفّ عن الهجس بتأدية أمينة للفولكلور وللمنظر الطبيعي اللبنانيّين.
كان من الواضح تماماً أنّ الدويهي، بتعليمه الكلاسيكي، وبما حمله من تأثير حبيب سرور ودراسة الفنون الجميلة في باريس، لم يكن قادراً على فرض قواعده. علماً أنّه، حتّى في بلده، كان قد نجح فيما يتجاوز توقّعاته.
بدا له أن الحاجة إلى كسر الألوان القديمة والانفتاح على العالَم باتا أمراً أكثر واقعيّة وأكثر إلحاحاً. إذ ماذا كان في وسع لبنانيّين تقديمه إلى الفنّ العالمي؟ أدرك أن التحدّي الحقيقي لا يتعلّق إلّا به. كان عليه أن يعطي الأولويّة لطبيعته الجوّانيّة لا للعالَم البرّاني.
أمضى سنواته الستّ الأولى في نيو يورك (1950 – 1956) في مناخ الانطباعيّة التجريديّة، وعاش تلك الفترة كعبور صحراء بمشقّة وسعادة في الوقت نفسه. ففي مواجهة الانطباعيّة الأميركيّة عمد إلى إعادة اختراع المفردات الأولى للرسم، مقتحماً المشهد الفنّي ذا المدخل الأصعب.
ينبغي تأريخ ولادته الحقيقيّة كرسّام فنّان ابتداءً من هذه الإقامة في نيو يورك؛ ابتداءً من اكتشافه أنّ هناك مع كلّ أزمة إمكانيّة لولادة جديدة وكلّ مرّة لإيجاد رَدٍّ ملائم.
عاد إلى الولايات المتّحدة سنة 1959. كانت السنوات اللبنانيّة قد ساعدته على فهم أنّه كان متعلِّقاً ببلده أكثر من أيّ شيء آخَر، وأنّه لم يكن يهاجر طلباً للهجرة، بل لأنّ عليه أن يعيش المنفى الجوّاني، بين ما كان قد اكتُسِب بدايةً وما يتبقّى مطروحاً دائماً للاكتساب.
وبعد ستّ سنوات، على أثر زيارة بتّي ﭘﺎرسونز Betty Parsons إلى مرسمه، تم تنظيم معرض له في صالة ذي كونتاﻣﭙﻮراريز The Contemporaries (المعاصرون)، في جادّة ماديسون. كان النجاح صاعقاً وبادرت عدّة متاحف أميركيّة إلى اقتناء أعماله. يومها، أفقد هذا النجاحُ الصحافةَ اللبنانيّة بُوصلتَها فعَنوَنَت تعليقاتها بـ«صليبا الدويهي ينتقل من التصويري إلى التجريدي» وتكلّمت على «تنكُّر» الفنّان. بدا لها أنّه، في ما وراء البحار، قد تاه بين أفخاخ حداثة صاخبة.
وتمّ افصاح الدويهي عن العلاقة التي، في نظره، ربطته بالفنّ اللبناني، عبر تنويعات جداريّاته والتأثيرات الأسلوبيّة التي كانت حاضرة فيها – بيزنطيّة، أو واقعيّة، أو عائدة إلى النهضة الإيطاليّة. وبتخلّيه عن رسم الجداريّات قطع العلاقة التي كانت تربطه بالفن الديني الماروني، دون أن يمنعه ذلك من مواصلة تنفيذ طلبات رسم ديني.
فالمسائل المتعلّقة، في نظره، بتوالي الاجيال، لم تكن مطروحة على المستوى السوسيولوجي أكثر منها على المستوى الثقافي، لأنّ فنّ الرسم، وإن لم يكن معتبراً دائماً كعمل حِرَفي، يظلّ يتطلّب تدريباً يكون فيه المعلِّم معلِّماً، والأوروﭘﻴّﻮن هم المعلِّمون. واستطاع الدويهي، على أيّ حال، أثناء المعرض الذي أقيم بمناسبة الدورة الثالثة لمنظّمة الأونسكو في لبنان، أن يتحقّق من أنّ نزاع الأجيال كان يشوِّش كلّ قراءة ممكنة لتاريخ الرسم المحلّي، حتّى لو أنّ الأمر كان لا يبدو متعلِّقاً إلّا بمشاجرات حول البروز.
أيّ مصير ينتظر ما كان ماثلاً منذ البدايات: التراث، والرسم الديني، وكنيسة مار يوحنّا زغرتا، ودير عين ورقة؟ لم يتردّد الدويهي في استخدام المراحل القديمة كتنويعات أسلوبيّة، كأغراض خارجيّة لا أهمّيّة إطلاقاً في صددها لاستعادة المفردات ولا تأثير للتوالي الزمني بالنسية إليها. كانت عزلته قد جعلت مسلكه صعباً، نظراً إلى اتّساع المجالات التي حاول تغطيتها، وإلى حساسيّة مَرَضيّة إزاء كلّ ما يمتّ بصِلة، من قريب أو من بعيد، إلى االصحافة أو إلى رأي الآخرين.
كان التقليد المتّبع في الفنّ اللبناني – مرسم، فاستمراريّة، فتعليم، فمبيع حَسَب قوانين السوق وتذوّقه – يقتضي الاستيعاب القَبَلي للثقافة. تمكّن الدويهي من مغادرة هذا المشهد لينتقل إلى الفنّ الحقيقي. فمعه ننتقل من التصوير السوسيولوجي إلى تاريخ الفنّ. لم يكن في إمكان المواجهة الوحيدة الممكنة مع الحداثة أن تكون غير قطيعة مع تاريخ الرسم المتشكِّل ذاتيّاً في لبنان. وأكثر من كون الأمر قطيعة وحيدة كان هناك سلسلة من حالات القطع المتواليّة لعلّ من المناسب أن نفصّلها ونؤرّخها. كان ما يُرى في بادئ الأمر هو الاهتمام بفنّ عالمي تُستبعَد منه كلّ خصوصيّة محليّة. وانطلاقاً من أوان معيّن، بات ما يشدّ الانتباه ليس الغرض المرسوم بل فن الرسم، موضوع الرسم نفسه، ليس المنظر الطبيعي والطبيعة، بل السؤال: «كيف نرسمهما؟».
كان مسلكه في المنفى هو نفسه مسلك جبران. اتّسمت إقامته في أميركا بنوع من عقدة الأعراض الجبرانيّة: رغبة في كسب الاعتراف، دروس مسائيّة، قراءة مكثّفة في الفلسفة والروحانيّات. لكنّ جبران كان يحمل طموحاً سياسيّاً، وكان يريد مصالحة الشرق مع نفسه، بمعزل عن الأديان كافّة.
يجب أن يكون المرء قد عرف صليبا الدويهي كي يفهم كيف اشتغل: كإنسان من لبنان الشمالي، أحد الموارنة الجذريّين والمطالبين بالالتحاق بالاصول، الذين تقوم هويّتهم على عناد يصعب تقدير درجته، والهجرة في نظرهم أقلّ ارتباطاً بالرغبة في الاندماج بثقافة عالميّة منها بالحاجة المطلقة إلى البقاء. وكما قال أحد مواطنيه: «هو، في رأسه، لم يغادر القرية». لقد سافر، بالتأكيد، لكن غرابة الأمر تكمن في أنّ سفره ظلّ محصوراً في حلقة دينيّة: مساكن مارونيّة للطلّاب في باريس، الكنيسة المارونيّة في نيويورك، الجماعات في المهجر. إلى أيّ حدّ يستطيع فرد أن يصمد إزاء العالَم؟ لكن إلى أيّ حدّ ليست هذه العلاقة مع العالَم نتاج انعزال الفرد، انطوائه على معاييره وعلى خياراته الشخصيّة؟
أخذ الدويهي على عاتقه كلّ تاريخ الفنّ في لبنان، وكان يراه كتوقّف خارج التاريخ العامّ. قام في هذا الإطار، بإنهاء الانطباعيّة لكن على نحوٍ سلبي، واضعاً ممارستها في طريق مسدود. واكتشف، على وجه الخصوص، أنّ الحوار مع اللوحة هو الحلّ الوحيد، الحلّ الوحيد الممكن ويجب، للتمكّن من قطع هذا الحلّ، اللجوء إلى ما يتعذّر إسقاطه من الهويّة؛ أن تقف على مسافة منها في حين أنّها تلتصق بك. وهو بذلك وضع في التداول العلاقة الأساسيّة مع الحداثة، هذه العلاقة المستحيلة بلا قطيعة، وبلا العلاقة المتبادلة بين الطرفين. إذ إن في تاريخ الفنّ الغربي، الاوروﭘﻲ كما الأميركي، جرى تأمين الحداثة دائماً بواسطة القطيعة. لكنّه ذهب إلى الحداثة حاملاً كامل العدّة القديمة التي أعطاه إيّاها تكوينه العائد إلى القرن التاسع عشر. هذا ما يفسّر المحاولات المكرَّرة للتخلّص من السجون ومن الأغلال، كما يفسّر عنف اللون بلا شكل، لدى أوّل رسّام لبناني لم تكن قطيعته بَلاغيّة ولفظيّة وحسب، بل دلاليّة المفردات.
طبعاً، لا بدّ لحصول قطيعة من أن يكون قد وُجِد شيء ما للقطع معه. وكون الدويهي لم يُقدِم عليها قبل حصولها، إبّان مروره بمعهد الفنون الجميلة في باريس، إنّما عاد إلى أن التعليم الذي تلقّاه حينذاك كان يعنى بصنع لوحة حسّاسة وواقعيّة. لم يكن السؤال حول تاريخ الفنّ قد عنّ له بعد. لكن كان يجب أن يكون هذا التاريخ قد تجسّد في مجتمع وفي وسط كي يُطرح هذا السؤال وكي تَعِنّ القطيعة، للمرّة الأولى، كفعل مؤسِّس ومحرِّك لفنّ رسم لبناني آخَر.
بموت الدويهي، يبدو أنّ كلّ شيء قد ضاع، جسداً ومقتنيات. ما كان إبّان حياة الرسّام، من فقدان للذاكرة، وحفاظ على تجانس الأعمال ووحدتها، لم يَعُد سارياً.
فتحَتِ الصِلات المتشابكة بين باريس ونيويورك ولبنان الطريق أمام ما هو أكثر من النسيان المُكْلِف، فتحَتْها أمام تجارة اللوحات المزيَّفة. فحتّى وقت حياة الرسّام ووقت نتاجه باتا منفصلَين. كان الدويهي، قبل استقراره في باريس، في السنوات الأخيرة من حياته، قد سكن في لندن لبضع سنوات باع خلالها العديد من مجموعات اللوحات. كذلك في باريس، حتّى لو أنّ هذه المدينة تقدِّم حقلاً أكثر تراكباً، إذ لم يَبِع خصوصاً إلّا للبنانيِّي المدينة.
ظهرت فجأة بعد وفاته كمّيّات من اللوحات المزيّفة، وبطريقة مكشوفة إلى حدّ كبير: إطارات أحدث ممّا يُفترض أن تكون، وعلّاقات من نوع لم يسبق للرسّام أن استخدمه، وخصوصاً استنساخ يراعي الأشكال الهندسيّة بروحيّة عمله المتميّز بالخاصّيّة نفسها، مع تنويعات باهتة المطابقة، أقرب إلى روحيّة الرسّام منها لو كانت شغل يده. وخصوصاً مع تنويعات أسلوبيّة أكثر إمعاناً في الافتعال من أن تكون قريبة من الأصل.
توقيعه ينحو إلى محاكاة هي من الفشل والافتعال المشهود بحيث يكون تَعَرُّفه بوضوح هو، في المقام الأوّل، ما يَشي بزيفه.
الألوان المستخدمة، ونمط تثبيت اللون على اللوحة، وحتّى طريقة التوقيع، وشدّ الإطار، كلّ الجانب الفيزيائي للعمل كان يشي بالزيف.
كانت دورة هذه التجارة على درجة من حسن التسييل والفظاظة بفداحة حجم التحايل بحيث انتهى بها الأمر إلى فرض نظرة جديدة إلى كامل النتاج واحتلّ هذا الزيف مكان الرسّام فارضاً نفسه كنتاج كامل بديل.
وهذا كان يقول بواضح العبارة: نحن النتاج الكامل المنسجم والمزيّف البديل لنتاج صليبا الدويهي، مكرَّساً لتلبية الطلب على لوحات غير معروف مكان وجودها على وجه الدقّة.
إبّان سكنه في بلدة شاﻣﭙﻴﻨﻴﻲ ـ سور ـ مارن Champigny – sur – Marne، في الطابق الأوّل من جناح مؤثّث كما لو أنّ صاحبه على وشك السفر، كان قد ابتنى في طرف حديقة مرسماً ظلّ في طور استكمال البناء، بحيث لم يُرَ فيه لوحة إطلاقاً. وفي الطابق السكني، كانت الكتب الوحيدة في المكتبة مجلّدات الموسوعة البريطانيّة، مع بعض السراويل منشورة على الدرَبْزين.
باع في لندن قسماً كبيراً من لوحاته القديمة وكان قد استبقى غيرها في مراسمه في الولايات المتّحدة. كان يحاول عبثاً، وهو المقسَّم، بالمعنى الحَرْفي، بين أوروﭘﺎ وأميركا ولبنان، أن يقيم انسجاماً في تراكب تجميعاته الثقافيّة، وقراءاته، وممارساته في مجالَيِ الرسم والشكل.
وكان قد ظلّ، على الرغم من زواجه، ذلك العازب الساكن في مرسم فوق الكنيسة المارونيّة في بروكلين لمتابعة التضادّ مع المصير الجبراني متحقِّقاً في الفنّ. وكانت السنوات الباريسيّة قد جعلته يعتاد العزلة الدراسيّة التي بات انفصاله عنها يتراجع بقدر ما كان الرهان النيويوركي يضعه في مجابهة مباشرة مع جبران.
كنّا نذهب لتناول العشاء في مطاعم صينيّة في الحيّ اللاتيني، على عادته لمّا كان طالباً في معهد الفنون الجميلة في باريس، لكنّ المطاعم كانت باهتة الاضاءة، وبعد المقاهي حيث كنّا نقضي ساعات كان يستقلّ تاكسي عائداً إلى منزله. شاﻣﭙﻴﻨﻴﻲ ـ سور ـ مارن. كان ذلك خصوصاً بمثابة الرحلة ـ الضدّ، الرجعة في الزمن السكوني، كتراجع حقيقيّ.
كان يؤكّد وقوعه ضحيّة خداع محامين، وصحافييّن، ومتعاطين بالأدب، وجامعي لوحات كانوا يَعِدونه بإقامة معارض له، أو كتابة سيرته فكان يترك لديهم لوحات لا يجرؤ على استعادتها، باذلاً نفسه بلا هوادة من أجل حمقى ومحتالين. كان لا يزال يعيش زمن مصداقيّة الكلمة المعطاة.
كما أنّه ظلّ يكنّ هذا الاحترام للسياسيّن والأثرياء الذين سبق أن اقتنوا لوحاته، كما لو أنّ الحاجة إلى القطيعة مع عمله الخاصّ يجب ألّا تأتي ضدّ الذين كانوا يُكثرون من نصب الأفخاخ التي تؤمّن لهم مكاسب خاصّة.
لم يكن قد أدرك فظاعة عودته بعد نصف قرن إلى نقطة انطلاقه. إلى الوهم الدائم بأنّ باريس تتيح الاعفاء من تقديم أيّ تفسير عندما تخنق كلّ التفاسير مجتمعة في الافراط بالرغبة أو الافراط بالرغبة في التفسير. يظنّ كلّ من في هذه المدينة أنّه واجد مُحاوره المثالي، لكنّ المرآة مُواربة.
مع ذلك، كان الأصعب لديه أن يكشف أوراقه بعدما بات خارج اللعبة. كيف كنتم تطلبون منه أن يتوصّل إلى فضح كلّ هذه الأقسام المزيّفة. فهو قد شرع بنوع من الرحلة المعكوسة انطلاقاً من لندن ثمّ من باريس. وكان يُفترَض في كلّ هذا أن يقوده إلى لبنان، في حين أنّه كان لا يريد العودة إليه.
ربّما كان اكتفى مع ذلك بأن يُعترَف له بمدى أهمّيّة ما كان قد حقّقه، لكن هل كان قد أدرك ذلك يا تُرى؟
من لوحات الديمان إلى العودة إلى الكتابة السريانيّة وإلى اللوحات التجريديّة في مرحلته الأخيرة، كان الدويهي الرسّام اللبناني الوحيد الذي حاول أن يطرح الأسئلة في مواجهة ثقافة العالَم.
كان ما كُتب من تقديم لنتاجه الفنّي من السوء والتجزئة والتهميش بحيث أمعنت في زعزعته موجة التزييف، وقد تحقّقت في حياته، ابتداءً من 1950، كمشروع منهجي لتثنية كامل عمله وإعادة تاويله.
كان هناك عمل كامل من نتاج المزيِّفين ينبني على فجوة الغياب السحيقة.
الدويهي هو سيّد المنفى الوحيد وأكثر من ذلك سيّد المنفى الأميركي في حين أنّ الآخرين كافّة لم يكونوا سوى سادة صغار للنسج على منوال واحد، للدراما المزيَّفة، وللزخرفة.
سيّد المنفى هو بكلّ بساطة ذلك الذي يكون سيّد إبداعه.

صليبا الدويهي، دير عين ورقا، 1950