الغريّب، خليل
الدامور (لبنان)، 1884 – بيروت، 1972
توجد آثار لنشاطه من 1912 إلى 1957 تاريخ مشاركته الأخيرة في معرض وزارة التربية الوطنيّة في مبنى الأونسكو. كان الغريّب، رسّام الساذج ذو النتاج الغزير، ينسخ بجعاً في بحيرة عند هبوط الليل، ومناظر من جبال الأﻟﭗ، ومَشاهد طباعة حجريّة ملوّنة لمخابز ومحالّ حلويات بيروتيّة، لكن كذلك رَسْمَ جيوستي Giusti للأمير بشير. كان الساذج لديه يأتيه من فَرْط ثقة بالنفس، أي من تظاهر بالوقوع في الخطأ، في حين أنّ رسّاماً كخليل زغيب ينطلق من رؤية لواقع العالَم في الفنّ، كرؤية لا مناص منها كانت ترمي إلى تصحيح التشابه، ممعِنة بذلك بالذات في الابتعاد عن الأصل.
كان الغريّب يدرك الرسم حسّيّاً عبر رسم يتّخذه نموذجاً؛ وفي هذا انزياح في الصنعة لديه يعتبره المِلكيّة الشخصيّة الألصق به. وكان هذا التقسيم تعسّفياً على الأخصّ إذ لم يكن يوجد هناك، تحديداً، إلّا هذا القسم الذي كان يضطلع به، ويشدّه بالكامل إلى نفسه. كان في عدد من لوحاته يتجاوز صنيع الفنّان الهاوي في أوقات الفراغ. هو لم يعتبر نفسه من هذا القبيل، بل كفنّان محترِف، معتمِدا في هذا التعريف قراءتَه الخاصّة لعمله. كما تستند أصالته إلى إعطاء مهنة الرسام هذه طابعاً اجتماعيّاً. ما كان يعمله سنة 1910، ظلّ يعمله أقلّه حتّى 1950، لكنّه بات رسماً أقلّ تقيّداً بقوالب جاهزة منه بنظرته إلى هذه القوالب. كان ينسخ من اللوحات تلك التي تقع عليها خياراته الشخصيّة في متحف ما.
كان الغريّب يشعر بهذه الحماسة الخرقاء إزاء الفنّ، أمّا زغيب فكان يشعر بها إزاء رسم العالَم. كان رسّام التقيّد الحَرْفي دونما أيّة دلالة. لا نستطيع أن ننكر عليه حُبَّه لفنّ الرسم، ولا، أغلب الأحيان، إتقانه النسخ حتّى تزييف الأصل أو تصحيحه، ولا كونه يرى في طريقته دون سواها تنويعات التوريث والتفارق. كان مرتهناً لمقاربة للفنّ لا تستوي بلا ثقافة، لكنّها كانت مقاربة لا غاية لها عدا بلوغ هذا الفنّ، معتبِرة إيّاه بمثابة حِرَفيّة إنتاجيّة. والحال أنّ هذه الحِرَفيّة ليست قابلة للاندماج، نظراً إلى كونها غير مقبولة اجتماعيّاً. الأمر الذي حمله بالتالي على أخذ دور الفنّان، والسبيل الوحيد إلى لذلك، في نظره، كان يقتضي أن يسوِّق لوحاته.
على نقيض زغيب، كان رسّام التقيّد بالحَرْفيّة التي تأتي عن رغبة في المحاكاة. والحال، يتمّ إظهار ما يراد إظهاره، وينتهي الأمر هنا، باعتبار الباقي من شؤون التأثير والتفارق. لكن هل كان يريد حقّاً أن يذهب أبعد من الوضع التقني الذي كان قد توصّل إليه؟ كيف يمكن تفسير لوحاته المستنسخة؟ لقد حاول أن يفرض على الفنّ قاعدة تعتبر أنّ العمل الفنّي الوحيد هو نسخ الصُوَر. ليس أنّه لم يُقْدِم هو نفسه على خَلق صور. المسألة ليست هنا. فهو متمسّك بأن الفنّان لايمكن أن يكون مُلَوِّناً عامّاً. وبينما كان زغيب يسعى إلى صورة يصبح مؤدّاها الفنّي ثانويّاً، كان الغريّب يذهب إلى فنّ مفرَّغ من تاريخه ويحاول أن يدسّ فيه تواريخ آخرين.
تتيح حالته مساءلة حدود الإدراك الحسّي للفنّ باعتباره صورة تقليدية، لكنّه لم يكن يفهم آليّات هذه الصورة. كانت المحاكاة، بالنسبة إليه، الفعل الوحيد الذي كان من شأنه ترسيم حدود اﻟﭙﻮرتريه، ولم يكن للباقي من وظيفة إلّا في الشروط الاجتماعيّة المتعلِّقة بالمكان الذي كان يحتلّه اﻟﭙﻮرتريه. هل يا ترى لم يكن إلّا رسّام لافتات يسعى إلى تطوير لفنّه، آخذاً الرسم بمعناه الحَرْفي مع نوع من السذاجة في تنميق النسخ؟ وأيّ إدراك يمكن أن يتأتّى لنا من فنّ قائم على النسخ ليس إلّا؟ مع ذلك هناك بضع لوحات كبيرة لغريّب جرى تصوّرها كتصميم مشهدي للمتخيَّل وللّاواعي: طفل صغير على صهوة حصان، على منظور ناشز، ونفهم مباشرة ما حاول تمتمتَه، قولَه على نحوٍ أخرقَ، أي أنّه ليس رسّاماً أخرق، وأنّه هو الآخَر يسعى إلى رسم ما لا يُرى بسهولة. إنّما ليس لأنّه لم يَرَه هو لا يحاول إبلاغنا إيّاه. هو لا ينسخ النموذج الذي لا يمتلك تمثيلاً له، بل ينسخ الصورة الفوتوغرافيّة للنموذج. وهذه الترجمة للصورة الفوتوغرافيّة توقعه في تشوُّش السذاجة، لكن كذلك في تشوُّش التمثيل نفسه.
فالغريّب لا ينسخ الفارس ممتطياً الحصان، بل الصورة الفوتوغرافيّة للفارس، بما فيه القماشة البيضاء التي استُخدِمت كخلفيّة والتي يبرز بياضها على الورق، بما فيه حدّ القماشة الأسفل وطيّاتها على الأرض.
إنّه لا ينسخ موضوعاً أمامه بل تمثيل الموضوع. فموضوع رسمه هو هذا التمثيل مُجابِهاً له ينسخه وَفْق تعليمة متفارقة لا تَخُصّ الفنَّ بل الفنّان العامل كمُناوِل في ورشة بناء، وَفْق تعليمة مطبّقة على استنساخ الصورة الفوتوغرافيّة، غَرَقاً في التفاصيل كما لو أنّها عناصر ديكور.
إنّه يَمْثُل فجأة محتلّاً مكاناً في الفنّ عبر هذا التشوُّش في التعليمات ويشرع مغالباً الكلل بما كان فرّوخ، في حينه، لا يرى فيه إلّا تنافساً مع التصوير الفوتوغرافي. العالَم، بالنسبة إلى الغريّب، كناية عن صورة فوتوغرافيّة يتعيّن استنساخها، بكل بساطة، بلُغة الفنّ.
إذا اعتُبِرت الصورة الفوتوغرافيّة كتعليمة للتعليمة ويتعيّن محاكاتها، فإنّ لوحة الغريّب تحلّ مكانها فيُعتبَر الفنّان نسّاخاً للصورة الفوتوغرافيّة. تكون الصورة الفوتوغرافيّة إذّاك، بالنسبة إليه، أصل الفنّ.
ينطوي هذا التخريج المزدوج على جاذبيّة ساحرة لأنّه يغادر الإطار في تصوّره ليعود إليه بالوسائل المادّيّة لتطبيقه.
مع ذلك، في المسار، تبدو هذه الصورة الفوتوغرافيّة للغريّب في حاجة إلى تجميل. أي إلى جذبها نحو التشابه والتمثيل، حيث مساحات الأبيض الكبيرة، وقد جعلها تظهير الصورة الفوتوغرافيّة مفرِطة في البياض، تسبغ على اللوحة هذا المظهر الضريحي، للتشديد على الواقعيّة.
ويمضي قُدُماً في هذه الوجهة التي يكتنفها الغموض، مثل هذه الطريقة التي تعتمد العيون المفتوحة على وسعها والحدقات المتمدِّدة التي يمعن شخوصُها، بالأسْوَد، وأكثر منه ببطء الحركات، في تثبيت التضادّ. وما يعادل ذلك في سحر الجاذبيّة، عند الغريّب، هو اعتماده النسق الذي يدفع بمنطقه إلى حدِّه الأقصى، إلى حيث لا يعود هناك للصورة الفوتوغرافيّة من مبرِّر للوجود، اللهمّ إلّا أن تكون نموذجاً للّوحة.
يأخذ بعد ذلك بالعمل على نسخة عن النسخة مدخلاً عليها ما يعتبره تحسينات وتصحيحات، أي التدقيقات والتقنيّات وَفْق نسقه مدفوعة إلى حدِّها الأقصى.
وترفد تقنيّاتُ الديكور تضادَّ لعبة الظلال بمجابهة الاسهام البدائي لهذه التقنيّات في لعبة الإيهام وفي هذه التعارضات العجيبة مع ما يجري تَصوُّرُه كفنّ تقليدي.
الجديد في المشهد هذا، إنّما هو نمط الاستبدال وهذا الاستخدام للتفارق في الإطار الداخلي الوحيد بمعزل عن الثقافة الفنّية، وإلّا فعبر المتخيَّل الوهمي تماماً بخصوص ما يتعيّن على اللوحة أن تكونه.
وينتهي التصوير المدفوع حتّى هذا الفهم غير المنتظَر باستهلاكه تماماً دون الالتفاف حوله أو تعطيله مثلما يفعل الفنّانون الآخرون عموماً.
هذه الاهتزازات التاريخيّة المشوَّشة على مدى نصف قرن هي ما يعطي فَهْمَ الفنّ اللبناني نكهتَه. يعود الفنّ إلى التصوير الفوتوغرافي، كما لو أنّ هذا الأخير جاء قبله، وبتركيب أكثر تشابكاً، كما لو أنّ الصورة الفوتوغرافيّة كانت غرضاً من قبيل ما يمكن استنساخه، كطبيعة ميّتة، مثلاً.
هذه النسبة إلى التصوير الفوتوغرافي تكسر في تفارقاتها النسبة إلى تاريخ الفنّ وتحاول دائماً أن تُمَرِّر في التصوير والتمثيل أنماطاً لاحقة معتبَرة أو معالَجة كما لو كانت سابقة. تصاوير، وتمثيلات، ولوحات، تختفي كلّها لصالح المواجهة بين التصوير الفوتوغرافي واللوحة.
ليس الأمر من قبيل نسخ طبيعة ميّتة تكعيبيّة بتقنيّة القرن الخامس عشر الإيطالي. لسنا في أوضاع فنّ عظيم في متفارقاً ثقافياً أو في حالة إيهام بمهارة تقنيّة خارقة بل في وضع الحِرَفيّة الذهنيّة الأكثر خشونة، في ربط الرسم التشخيصي بأدواته بحيث يتراجع نتيجة التشوُّش التاريخي ويأتي بجديد بفضل وسائط الرسم المستخدمة.
ليس المطلوب استنساخ روبنز Rubens بالفسيفساء أو الذهاب إلى انفرازات الثقافات البصريّة، بل الاستفادة من المجلّات، ومن صور المجلّات، والصحف، والمصادر الشعبيّة للمتخيَّل، من أجل توجّه نحو تأويلات أخرى لشرائح كاملة من الثقافة البصريّة.
على غرار ما كان من أمر الفنّ الديني اللبناني، الذي ظهر بين القرنين الرابع عشر والتاسع عشر كشجرة نَسَب مكوّنة من توريث حِرَفي مع درجات متفاوتة الأهمّيّة من المعلّميّة في الفنّ الديني الغربي، يقدّم تاريخ فنّ الرسم في القرنين التاسع عشر والعشرين الاستمراريّات نفسها، لكنّه يقدِّم أيضاً شخصيّتَين على شيء من الهامشيّة هما زغيب والغريب.
والأكثر لفتاً للانتباه هو أنّ زغيب والغريّب ينتميان إلى القرية نفسها، الدامور، وهي قرية زراعيّة تقع بين بيروت وصيدا، وتُمَثِّل خصوصيّة مجتمع ماروني أثرى من العمل الزراعي وتثقَّف منذ أوائل القرن التاسع عشر.
هذه العلاقة بالثقافة، أي، هنا أيضاً، بفهم الفنّ الديني والفنّ الدنيوي، تحظى بالأهمّية في القراءتين الفرديّتين اللتين تشغلاننا. لسنا في ثقافة مدينيّة منتظمة البنيان حيث يتحقّق التوريث وِفْق نموذج، بل في علاقات فرديّة بين عصاميّين.
سيكسب الغريّب عيشه على فترات عابرة من ديكورات مسرحيّة، كما أنّه لن يتردَّد في أن يعمل عند الضرورة كطرّاش في المباني، مُتولّياً في الوقت نفسه جلاء الجدران والرسم عليها لينتهي به الأمر بأن يقترح تزيينها بلوحات زيتية، لمناظر، أو طبيعة ميّتة، أو ﭘﻮرتريه.
هذه العلاقة مع المساحة المسطّحة، مع فكرة الديكور، هي علاقة أساسيّة في إدراكه. فلا شيء وراءه، وأمامه هناك الجدار مجرّداً، وتقديمه وتمثيلاته.
وما يقوم بتطويره، عندما يقترح تقديم ﭘﻮرتريه لربّ المنزل أو ربّته، إنّما هو لا أكثر ولا أقلّ من الفكرة المجرّدة عن محاكاة الديكور العامّ في بيوت الطبقة الوسطى.
ويلفت كذلك هذا المنحى الشخصي الذي يعالج به كلّ أشكال التمثيل. فهو كرسّام ديكور يعتبر الديكور فنّاً في المقام الأوّل. وهذا الفرق على أي حال هو ما يدمّر فكرة الديكور من الأساس في تصنيف فنّه أو تبويبه.
الفعل الرئيسي عنده غير متعلِّق بالوعي الداخلي لدى فنّان ما، متنامياً ومنبنياً في رسم العالَم، إنّما ببادرة النسخ نفسها. مجرَّد كون الفنّ لديه نسخاً يسقطه من مكانته فاتحاً له في الوقت نفسه هذا الأفق الذي ستجد فرادته مكاناً لها فيه على نحو جذري.
سيتكوّن عنده إدراك العالم، والادراك البَصَري، انطلاقاً ممّا يرى.
بالفعل، إذا كان الفنّانون اللبنانيّون الأوائل في أواخر القرن التاسع عشر لا يرون إلى التصوير الفوتوغرافي إلّا كمنافسة جذريّة، فالغريّب لم يسعَ حتّى إلى منافسة التصوير الفوتوغرافي، حتّى أنّه لا يطرح المسألة أساساً. كان يريد استخدام التصوير الفوتوغرافي وتعليماته كي يرسم.
في تاريخ التصوير الفوتوغرافي اللبناني، مهما كان تاريخاً كسيحاً، يفتح هذا التصوير أفقاً جديداً بمعنى أنّه معتبَرٌ غرضاً يكون التعبير عنه ليس بلُغة أخرى إنّما بلُغته. فاستخدام تعليمات التصوير الفوتوغرافي للرسم يعني كذلك إحداث انقلاب تامّ في منظور الفنّ ووزنه الثقافي.
أكثر من ذلك، إذا كان الغريّب ينسخ صوراً فوتوغرافيّة في الرسم، عامداً أحياناً إلى تكثيف المعجون لإعطائه المزيد من التماسك، مثبّتاً بهذه السماكة بالذات الحدود بين الفوتوغراف والرسم، فقد كان الأمر في نطاق ذلك الانقلاب في العلاقات الذي يجعل التصوير الفوتوغرافي يأتي قبل أي فنّ. إلّا أنّ هذا الطور من نتاج الغريّب يمتدّ طويلاً. ومن المحتمل أن يكون قد اضطرّ إلى المرور بكافّة تدرّجات هذا الانقلاب، نزولاً في الوقت نفسه عند وضعه المالي والطلبات التي كان يمكن أن تَرِده.
يمكن بالتأكيد ازدراء عمله أو استبعاده بالكلام عليه كنسّاخ، لكنّ جميع الفنّانين اللبنانيّين نسّاخون في واقع الأمر، وتبقى الأصالة الأساسيّة لمقاربته في أنّه، في المقام الأوّل، لا يعتبر النسخ هدفاً في ذاته بل وسيلة لتحقيق فِكَره ولتحقيق هذه العلاقة المؤجّلة مع الأغراض التي سيخلقها.
تكمن جاذبيّته الأشدّ في كونه في حقيقة الأمر يخلق أغراضاً من نوبة ثانية، إنّها أغراض أغراض، متروكة على شطآن التصوير بكلّ تنويعاته.
وهذه المقاربة قابلة للتطبيق على نحو جذري. هكذا قام بطلاء شقّة آل مانولي Manoli بالأزرق النيلي واقترح عليهم تزيين الجدران بمنظرَين هولّنديَّين نقلهما على طريقته. إنّهما طبعاً منظران لَيْلِيّان حرص فيهما على إظهار براعته في إبراز الانعكاسات وامتلاك الحرفة، أي كيفيّة تبيين مشهد داخلي، مع أبقار وطواحين هوائيّة حيث يكون كلّ شيء ظاهراً باللونين الأسود والأزرق القاتم عدا انعكاسات القمر على مستنقع.
لقطة الغريّب المفاجئة هذه ليست من الآثار العجيبة لمتعة الاكتفاء بمعاينة المنظر الطبيعي في هولّندا التي لم تطأ قدماه أرضها، إنّما هي السِرّ الذي يخصّ التمثيل بمفردات ليست من الأوّلية بقدر ما تبدو للوهلة الأولى، بل تصدر عن وعيه هذا التفارق ببساطة كصيغة يهيب فيها بالواقعَ للظهور.
من المسَلَّم به أنّ حقيقيّةَ الأشياءِ اصطلاحٌ، كذلك الواقع وعالَمنا الذهني، لكنّ المهمّ هنا هو العبور من الاصطلاح إلى هذه الأدوات التعبيريّة وإلى الشيء المخلوق.
عندما يأتيه مصوِّر فوتوغرافي بطلب ستارة لتُستخدم كديكور ﻟﻠﭙﻮرتريه هو لا يكتفي بتصوّر هذا الديكور كخلفيّة مرسومة تُوهِم بالمنظور، بالدخان المتصاعد أو بآنية زهور مأسلبة، لإعطاء الانطباع بحقيقيّة الاشياء، بل يأخذ في الحسبان هذا الاصطلاح على ما هو، كمنطلَق لما سيقوم هو نفسه بدَوْبَلَته.
إنّه بالفعل يرسم الصورة الفوتوغرافيّة التي تمثّل الفارس أمام الديكور ونرى الفارس أضعف تماسكاً من الديكور نفسه المستعاد في اللوحة والبادي كما لو أنّه وحده من الأشياء الحقيقيّة.
أمّا لماذا يظهر هذا الديكور كما لو أنّه وحده من الأشياء الحقيقيّة؟ فلأنّه تأكيد لازدواجية الفنّ كوسيلة وواقع.
طبعاً، ربّما كان من باب التهوُّر أن يوضع الغريّب في مصاف عبقريّ مجهول في فنّ الرسم، ما يشبه الجمركي روسّو Le Douanier Rousseau في ضاحية بيروتيّة، لكنّ بعض اللوحات التي تتوصّل إلى هذا المستوى من التعبير تظلّ تطرح مع ذلك مسألة تبقى معلَّقة في تاريخ الفنّ.
كذلك يطرح زغيب المسألة نفسها في المنطلَق. فهو إذ عبّر، في الثانية عشرة من العمر، عن رغبته في أن يصبح رسّاماً، عُرِض عليه الدخول في خدمة الكنيسة أو الكهنوت، ما يتيح له مستقبلاً دراسة الفنّ الديني، على خُطى قرم الذي مرّ بذلك قديماً والذي سيتردّد الفتى إلى مرسمه لبضعة شهور.
لكن لا جدال في أنّ طموح زغيب لم يكن التنقّل ذهاباً وإياباً بين الكنيسة واللوحة. وقد بدأ منذ الأربعينيّات بممارسة الوظيفة نفسها كناسخ لوحات. كناسخ فهمه الخاصّ وتفسيره الخاصّ لمواضيع الفنّ.
فحيثما نجد أنّ الغريّب، بدل أن يستقي مباشرة من مروحة المواضيع ابتداءً من الصوَر الفوتوغرافيّة في المجلّات والدوريّات، يروح يتساءل، بهذا النحو من الارتباك المتواصل، حول الخصوصيّات التقنيّة والفكريّة، نجد زغيب ينسخ مباشرة دون أن يطرح على نفسه السؤال حول طريقته في النسخ. يرى زغيب أنّ الفنّان هو الذي يختار الصورة. إنّه يرسم مشهد مطاردة بكلاب الصيد في الريف الإنكليزي، أو ملكة بريطانيا يوم تتويجها، وشخصيّات سياسيّة أو تاريخيّة، ومغنّيات أو ممثِّلات سينمائيّات.
الفن بالنسبة إليه بالتالي هو ما يجعله يختار، قد يكون ذلك اشتهاء النساء، أو ما يكنّه من الاحترام نحو وجوه معيَّنة، سياسيّة أو تاريخيّة، أو من الاعجاب بها، لكنّ ارتجاليّة الرسم والرغبة في ممارسته يظلّان مطروحَين أمامه دائماً على بدئيّتهما. إنّه لا يعيد النظر أبداً بضربة الريشة، أو باللون. وبهذا التوجّه سيكون لاتصالاته الأولى مع الأوساط المثقَّفة، وهي لن تكون لبنانيّة بل أميركيّة من فترة الخمسينيّات، أثرها الحاسم في توجيهه نحو فهم تلك الأوساط لفنّ الرسم الساذج.
زامن ذلك في أوروﭘﺎ إعادة اكتشاف الفنّ الساذج مع الجَدّة موزس Grandma Moses. لذا كان الفنّ يمتثل للاصطلاح حول ما كان يبدو نفياً له بالتعابير التي تخصّه. إنضوى زغيب في هذه الممارسة على نحو لا لبس فيه خصوصاً وأنّ النماذج التكوينيّة كانت ماثلة أمامه. وتوصّل سريعاً إلى بناء الحيّز الضروري، والشخصيّات، والسرد التصويري، وكافّة العناصر التي يستلزمها الفنّ الساذج، دون أن يتوصّل بالضرورة إلى إحكام سيطرته عليها.
من الواضح أنّ هناك لوحات ناجحة من حيث إحكام السيطرة على هذه المعطيات الفنّيّة جملةً، ومن حيث الطريقة المتّبعة، التي تقدِّم، مرّة أخرى، حسب تقاليد الفنّ اللبناني، صورة أمينة عن إمكانيّة النسخ هذه مع عدم إدراك الناسخ أنّه إنّما ينسخ نظراً إلى أنّه يضع نفسه في موقع التفارق التاريخي.
إن مدى مساءلات الغريّب ومجاله أهمّ بكثير طبعاً. قد يبدو كذلك أكثر ثانويّة بطريقته في عدم استثمار الاجابات التي توصّل إليها. ينبغي عدم إغفال أنّ فرادة إجاباته، أي تَنوُّع نتائجه، ما بين المحاكاة التعبة والنجاح في إدخال اثنين أو ثلاثة من الاصطلاحات المتلازمة ودخولها في منافسة، يتيح التوصّل إلى أنّ كُلّاً من الإجابات، في نظره، ما كانت لتكون إلّا فرديّة. كان هناك إذاً الفنّان، وغرض الفنّ المطلوب، وصاحب الطلب.
لدينا هنا انبعاث تقليد قديم مركّب لايقتصر على فنّ حسب الطلب المكرَّس للدلالة الدينيّة المبجّلة، بل يشمل تعديل تقليد يخصّ فنّ رسّامي الأيقونات، حِرَفِيّي التصوير حسب تقاليده، المتنقّلين من مدينة إلى مدينة أو من قرية إلى قرية منوِّعين في تطبيق فنّهم تِبعاً للطلب.
الغريّب في جانب ما من عمله فنّان أيقونات لكنّه دفع بنماذج فنّ الأيقونات خارج إطارها التكويني عندما سحب إلى الفنّ قابليّةَ التصوير الفوتوغرافي للاستنساخ وطبّقها عليه. قد لا يكون كلّ ذلك واعياً ومحسوباً دائماً إلى هذه الدرجة لكن كان لا بدّ من التمتّع بمثل هذه الشجاعة خارج السبل المطروقة، أو أنّ ذلك كان سبيله الوحيد.
السؤال الذي يطرحه الغريّب هو في نهاية المطاف السؤال الذي ينطوي عليه الفنّ. ما الذي يمكن عمله بريشة ومادّة تلوين ولون؟
لعلّه كان يظنّ أنّ في استطاعته أن يعيد رسم العالَم أجمع، أي أن يلوِّنه. كان يدرك جيّداً أنّ هذا التلوين كان وسيلته الوحيدة لتجديد النظرة وشدّ إمكانيّة التجديد إلى حيّز الانتباه السلبي.
كان الغريّب كذلك شغّيلاً، وشغّيلاً على نفسه في المقام الأوّل بمعنى أنّه قام بهذا الاشتغال على المقابلة بين التقنيات والتفارقات والمدارك.
ينبغي كذلك وضع الأمور في نصابها. الغريّب ليس سيزان Cézanne. إلّا أنّه يطلق صوتاً جديداً وصادقاً بما يتّسم به من الفرادة في منحى عمله وفي ما أنجز من أعمال، عندما تتكلّل بالنجاح. من المدهش كذلك ملاحظة أنّ الفنّانين اللبنانيَّين الوحيدَيْن اللذين يقدِّمان على نحو جذري حلولا غير منتظرة يقفان تماماً خارج الدروب التقليديّة ويتوصّلان إلى تخطّي هذا الوزن الجذري المعطى للنسخة مفهومة كتعب الناسخ.
كان الغريّب قد التحق سنة 1902 بشقيقه المقيم في نيويورك. وعاد إلى لبنان سنة 1908 أو 1912. له كتاب عنوانه فنّ الرسم اليدوي ومجموعة شعريّة باللغة العربيّة.

خليل الغريّب، طبيعة صامتة، 1934