غوﭬﺪِر، جان غوﭬﺪرليان، الملقَّب بـِ
بيروت، 1923 - 2016
سليل وسط دُمِّرت بنيته بفعل الإبادة الأرمنيّة والمنفى، عملَ غوﭬﺪر Guvder، على نحوٍ رمزيّ بامتياز، على إبراز واقعة كونه رأى النور، سنة 1923، في عرض البحر، باعتبارها إحدى النقاط الرئيسة في سيرته. لم يكن ما سيلقاه، في المنفى، مجتمعاً منزوع الثقافة، وَفْق زعم البعض متذرّعين بمجرّد كون الوظائف الدينيّة قد اتّخذت طابعاً اجتماعيّاً، بل مجتمعاً في طريق التشكّل، حيث التقسيمات الكلاسّيكيّة لا تتيح الكثير من الخيارات، على الرغم من حرّيّة ظاهريّة.
تكمن إحدى خصائص الرسم الأرمني في غياب للحساسيّة يستعاض عنه بكفاءة تقنيّة عالية تُلامس تَكَلّفاً يقوم مقام الأسلوب. وإلى هذا، يكون التجرّد من حساسيّة الخطّ فيما يتجاوز وظيفته، وسيلة لدعم هذه الوظيفة. فيكون إدراك الشكل وقد تَسطَّح نهائيّاً ويجري الشغل على هذا: رسمَ صانعٍ – el hacedor، حسَب تعبير بورخيس Borges -، يَحلّ محلّ ما قد يكون تنويعات التكلُّف غير القابلة للضبط. وتقتضي هذه الطريقة في إطفاء الشكل، في تخفيسه، المواجهةَ جَبْهاً وإدراك الموضوع جملةً؛ ضرورة الصدمة لكونها تهذيباً للمشاكلات تُبدِّد الطاقة والوقت في الحسابات النفسيّة.
يخلط غوﭬﺪر الواقعَ ويُتعِبه برسمه؛ إنّه يُنهِك الرسمَ بالواقع. لديه أمانة الفنّ العظيم كما يرى أنّ الفنّ ينبغي أن يكون. وهل يمكن أن يكون خلاف ذلك، حتّى لو كان تواضع الشغل على نموذج إلى ما لا نهاية لا يفرض امتلاك رؤية بل طريقة رسم؟
يظهر في أعماله أحياناً ما يُذَكِّر بقوّةِ رسومِ هاليون Hélion، نَبِهاً للواقع، مع حرصه في الأغلب على أسلبته، لجعله أقوى تعبيراً. فالرسم، كما في التقليد الشرقي، يؤسِّس الحيِّز بدل وضعه في المنظور، إذ إنّ هناك خطّ يقسم المسطّح إلى اليمين وإلى اليسار، وعندما تدخل الصورة، يكون ذلك، على غرار الكتابة الاختزاليّة، تذكيراً بحقيقيّة الصورة. يولد الرسم جملةً من المخزون الشرقي والبيزنطي القديم، الذي يفتقد المنظور الجبهي.
كان غوﭬﺪر يحيط الطبيعة الميّتة في أعماله بخلفيّة من الأوراق النباتيّة باللون الذهبي. هناك شيء ما مكسور في رسمه يقوم مقام الحساسيّة مخضِعاً له نهائيّاً هذا المخزون الشرقي الذي يفتقد المنظور.
عاد غوﭬﺪر إلى لبنان بعد أن أمضى إحدى عشرة سنة في باريس (1946 ـ 1957)، وأربع سنوات في روما وإيطاليا (1959 ـ 1963)، وفتح أكاديميّة لفنّ الرسم (14 تشرين أوّل/ أوكتوبر 1963 ـ 1973) أدّت دوراً مهمّاً كمكان للتعليم واللقاء.
كان يقف كمُرَبٍ أمام أعمال كبار الفنّانين التي كان لامعاً في تحليلها لتلامذته. وكان كذلك مربِّياً فيما يخصّ فنّه، في مقاربته هذه لتوريث حِرفة رفيعة تُؤسِّس لكلّ تَدرُّب مهني. لم يكن يخطو في فنّه قُدُماً إلّا وهو يدفع حدود طموحه لتتراجع أمامه وهو باقٍ دائماً دون الممكن.
كان غوﭬﺪر مهمّاً كصاحب قراءة ثقافيّة للواقع. وهو، مع كون الفنّان، في نظره، حِرَفيّاً ومُحقِّق أعمال، لم يُجسِّد الصناعي الذي يَعتبر أنّ تكرار الصيغة الجاهزة يضمن كمال اللوحة. لقد قام بمشروعه الشخصي، بدوافعه وبمعالِمه في الاستدلال، وأهّل فنّانين، لكنّه وجد نفسه في فخّ، بوصفه أوّل من استعمل صِيَغه الخاصّة التي كان لا يتوصّل إلى تخطّيها.
فما يقدِّمه للعرض لم يَعُد تلك الفرصة التي ينتهزها رسمُه في آخِر منطقه. إنّه براعتَه في اللقطة إذ تسدّ طريقها على نفسها مستنفِدة طاقات الرسم إلى حدّ أنّه يصبح شاهِدَها الوحيد. فالطموح إلى التنافس مع الواقع يلتقي، كإمكانيّة وحيدة، البراعة في اللقطة.
إن تسلسل الأحداث الوحيد، على مستوى التاريخ الثقافي، هو ما يخصّ الفجائع الجماعيّة. أمّا العلاقات بين الأفراد فلا تعدو كونها عَرَضيّة ورسميّة: شكليّات وتمثيل.
بالنسبة للفرد الذي، مثل غوﭬﺪر، لا يستطيع الانخراط في الزمن الجماعي، تقترح المؤسّسات عليه أطاراً ثقافيّاً – المؤسّسات التربويّة عموماً. مع ذلك، فقد أخذت تظهر، ابتداءً من الستّينيّات، بعض المؤسّسات ما ـ فوق ـ الجماعيّة، ومنها أكاديميّة غوﭬﺪر التي أغلقت أبوابها سنة 1973. كذلك قام الرسّام بالتعليم في الجامعة الأميركيّة في بيروت وفي الألبا.
يبدو الأمر كما لو أنّ غوﭬﺪر لم يمارس الرسم إلّا تمهيداً للمشروع الذي راوده بلا انقطاع بأن يكون فنّاناً كبيراً. والحال إنّه لم يَشرَع بتنفيذ مشروعه هذا، نظراً إلى أنّ الرسم نفسه حشره في زاوية فرط براعته في الأداء.
وتكمن خاصّيّته الأخرى في كونه أرمنيّاً لا يقع منفاه على مستوى مخيّم اللاجئين، بل على مشارف الفنّ نفسه.
ذلك أنّ طريق التصوير، للتوصّل إلى الفن، كان أعقد تركيباّ من أن يفلت من سطوات الواقع الذي كان يحاول أن يتملّكه بالدأب والتكرار. والحال إنّ الدأب والتكرار لايستتبعان التملّك بالضرورة، كما أنّ التصوير لا يمكن أن يُفهم كحِرْفة ملموسة، فهو بالتالي أقلّ إثباتاً للواقع منه إبداءً للبراعة في الأداء.
هذا لا يعني أنّ غوﭬﺪر كان ينتقل من مجتمع لا تقاليد له إلى مجتمع لبناني له منها أكثر، بل كان يسعى ، أقلُّه، إلى تكوين مجتمع كهذا. وبالتأكيد، كانت الطريقة التي اتّبعها في ذلك صادرة عن رغبة في تملّك العالَم والواقع، عن طريق التصوير، إلّا أن هذا كان هدفه الوحيد. فإلامَ يمكن لهذه المحاولة أن تصل؟
بينما كان غوڤ يرسم قلقه ليطرده، كان غوﭬﺪر مضطرّاً لمجابهة استحالة بناء فنّ خارج وسط ما ومجتمع ما. وقد طُرِح السؤال مجدّداً عندما كان ملاذه ورهانه الوحيد أن يبني نفسه كفرد: هل يستطيع الفرد، وحده، أن يبني فنّاً؟

غوفدر، عيناب، 1972