top of page

خليفة، جان

حلتون (لبنان)، 1923 – بيروت، 1978

جان خليفة متحدّر من وسط إكليروس ورجال دين موارنة لم يتمكّن من التخلّص منه تماماً.

عندما انتسب إلى الأكاديميّة اللبنانيّة للفنون الجميلة ALBA، بعد دروس في كلّيّة دير ميفوق ثمّ في كلّيّة الاخوة المريميّين في جونيه، رافقه عمّه الكاهن إلى بيروت كي يزوّده بالتوصيات الأخلاقيّة التي اعتُبِرت ضروريّة، الأمر الذي أثار دهشة غير قليلة لدى الموديل العارية.

دخل الرسم مثلما يدخلون في الدِين، شاعراً بالأمان في الإيمان، إن لم يكن في انتظار المحتمَل، متلهفاً إلى أن يقيس لنفسه إن لم يكن للآخرين الاستقامة الجذريّة التي كانت مزيّته. كان خليفة مدركاً، وهو يسافر إلى باريس بعد دراسته في الأكاديميّة، إلى أين يمكن لهذه الرحلة أو لا يمكن أن تقوده. هو لم يكن رافضاً الرسمَ الديني التقليدي أو الوسط الماروني، لكنّه كان يرى إليهما بعَيْن الحقيقة نفسها التي يرى بها إلى الباقي. كانت غايته أن يستكشف الرسم، بل حتّى إمكانيّة الرسم.

 جعلته الأكاديميّة يعي تفارقها التقني في البراعة التي يبديها الجميّل. قام برسم بعض المناظر الطبيعيّة على النموذج، لكن  هذه المناظر كانت مدينيّة بالضرورة. خليفة أو تدمير البراءة بتشكيليّة الفنّ؛ واقع الاعتقاد بأنّ البراءة تكفي في مواجهة مجرّد تداول الفِكَر والتصوّرات التشكيليّة.

مرّ خليفة بفترة توازن في منتصف الخمسينيّات، عندما رسم لوحات على أوضح ما تكون مساءلة الواقع اللبناني، بوسائل الرسم والتشكيل الأكثر قدرة على أدائه بلا إفراط في التفارق. وسيصبح التفارق أكثر فأكثر قسوة، أو سيبدو كذلك في نفسيّة الرسّام نفسه، بين الوسائل والغايات التي كان بحثه المتطلّب يقوده إلى أن يمضي بها قُدُماً نحو التجريد أقلّ منه نحو نزاعاته الشخصيّة. كان هناك شيء ما مقطوع في إمكانيّات التجريد نفسها، وفي التحكّم بوسائل التقنيّة، وأحياناً في وعي وجودها. بهذا المنظور، يكون من غير الممكن، بالطبع، الركون إلى قراءة تُظهِر الماروني الشابّ ذاهباً إلى بيروت كما إلى فنّ الرسم مشدوهاً أمام عري أوّل موديل أنثى في الأكاديميّة. انتسب إلى المدرسة الوطنيّة العليا للفنون الجميلة في باريس من 1951 حتّى 1954.

الغريب في الأمر أن باريس كانت لخليفة مكان مزيد من السذاجة، لأنّه عاشها كمكان لكلّ الاحتمالات: زيارة صالات العرض، الدخول في دائرة المَعارض، الانتقال إلى اللغة التجريديّة كلغة طبيعيّة، دون طابع تاريخي، كذلك دون التنبّه إلى أنّه إذا كان هناك فعلاً حول شارع بوناﭘﺮت بعض صالات العرض التي تهمّها الحداثة، فليس الأمر بالضرورة، كما كان يظنّ، على صلة مباشرة بثقافة الرسم العالميّة، إنّما هو نزول عند ضرورات تجاريّة. دخول هذه الصالات، والعرض فيها، لا يحسبان، بالنسبة إليه، أقلّ من انتصار. عدا أنّه لم يكن مخدوعاً بمقاربة مفرطة في البدائيّة، ويقول ذلك بوضوح.  كان يريد البقاء في باريس، ولم يثنه عن ذلك سوى رسائل فؤاد حدّاد، مدير قسم الفنون الجميلة في وزارة التربية الوطنيّة التي كانت تحثّه على العودة إلى البلد.

أيّ رسم كان عمل، في باريس؟ جانب سهل من الجواب يتناول المستوى الشخصي والاجتماعي، أكثر من تناوله الصعيد الثقافي. وينبغي التفتيش عن الجانب الآخر في علاقة التنازع بين باريس وبيروت: إنشطاريّة وترابط، انفصال جسمي لكن مع حضور فكري وثقافي. كان سؤاله الحقيقي الموجّه إلى نفسه يرمي بالأحرى إلى معرفة ما إذا كان الأفضل البقاء حيث كانت الأشياء تفتنه. لذا، عندما حسم أمره وقرّر العودة إلى بيروت، قادته العلاقة بباريس إلى عداء جذري تجاه مجتمع لبناني كان قد ظلّ عدّة سنوات منفتحاً عليه، آملاً عبثاً الوصول إلى جواب. لكن كان عليه أن يجابه بيروت في بيروت. كان يعاني صعوبة تمثّل معطيات لا يقيم بينه وبينها أيّة مسافة، كما كان يعاني من امتثاليّة مشوَّشة تطفو عليها المدينة كلّها. كان لهذا السبب في حاجة لا إلى الشغف بالرسم وحسب، بل كذلك إلى طول الصبر في العمل على أن يجمع حوله بعض التلامذة ليشاطرهم هذا الشغف. إذا كان جيل الخمسينيّات هذا لا يحمل حقيقة الرسم، فهو كان يحمل جانباً من حقيقة ممارسته لهذا الفنّ، ومن تحديد جديد لخصائص إمكانيّاته. كانت هذه الأخيرة أقلّ ارتباطاً بشروط تاريخيّة منها بأوضاع خاصّة تتعلَّق بمجموعة من الأفراد المهتمّين بفنّ الرسم، كما بوسط خاصّ: الأكاديميّة، مانتّي Manetti، قيصر الجميّل، اﻟﭙﻮلّنديّون الذي تولّوا التدريس في الأكاديميّة حاملين معهم صدى الثقافة الأوروﭘﻴّﺔ، تجربة فنّانين أمثال فرّوخ وأنسي.

كان قد تمّ آنذاك تجاوز قضايا العشرينيّات والثلاثينيّات: المناظر الطبيعيّة اللبنانيّة، «النماذج» [البشريّة] اللبنانيّة، «الضوء اللبناني»، الفولكلور والزخرفة التوضيحيّة. فقد حُلّت التجاذبات بين البطاقة البريديّة والهويّة لصالح تجذير كان يبدو فيه أنّ المرجع السابق والمورد اللاحق لم يعد من الممكن أن يتواجدا على مستوى إناطة قضايا فنّ الرسم بالأكاديميّة. لم يعد في الوارد تزويد الصالونات بلوحات المناظر الطبيعيّة، ولا قاعات الطعام بلوحات الطبيعة الميّتة، والمكتبات برسوم الشخصيّات. فقد بات من الضروري مجابهة الرسم، وليس متطلّبات اجتماعيّة وتجاريّة. جاء ردّ خليفة على سؤال الخمسينيّات، حتّى وهو بعد طالب في الأكاديميّة، ليس بأصالة نهجه وحسب، بل كذلك بتمييز الحداثة دون أن تشوبها السرقة الفنّيّة، هذا الضرب من التفارق حيث لا يؤبه للوحة إلّا إذا ذكّرتك بقراءاتك أو بلوحات أخرى. فهناك، في تاريخ الرسم في لبنان، وقت يتوقّف فيه طرح مساءل الطابع التاريخي، والتفارق، والهويّة، والتعبير عن الذات. وقت غالباً ما يكون ردّ الرسّام فيه أليماً وصعباً، إذ يحاول، في الوقت نفسه، ألّا ينقطع عن تاريخ فنّ الرسم في العالَم، وعن سياق فنّ الرسم المحلّي، وعن تطلّبه حقّ التعبير الشخصي.

 كان يُنظر حينذاك إلى التجريد كوسيلة لمساءلة فنّ الرسم، دون إدراك كون المسألة تكمن هنا. هناك سلسلة من المحاولات في فنّ الرسم إبّان الخمسينيّات والستّينيّات قامت على التردّد ذهاباً وإياباً بين التصويري والمجرَّد، وكان سِير يتولّى تأمين استمراريّتها على الصعيد المحلّي. فهو الذي، عبر إعادات طرحه المسألة على بساط البحث، يقدِّم التكعيبيّة باعتبارها الأداة الضروريّة للرسّامين الشباب من أجل تدمير الصورة بحذر. ينبغي معاينة ذلك في ظهوره في فنّ كلٍّ منهم على حدة، إذ كان هناك قليل جدّاً من الحركات الجَماعيّة.

كان الرسم بالنسبة إلى كلّ فنّان لبناني بمثابة ملاذه الخاصّ، جذريّته الخاصّة. لذا ليس تاريخ الرسم هذا إلّا حاصلَ جَمْع قراءات التواريخ الشخصيّة. ويظلّ فرز التأثيرات أقلّ ارتباطاً بسياق، وبتواصل تاريخي، منه بلعبة اعتباطيّة للتأثيرات وللمصادفات العشوائيّة في الحياة الاجتماعيّة والثقافيّة البيروتيّة.

مكث خليفة سنتين في إيطاليا (1959 ـ 1960) في طريق عودته من باريس. وأسفر اختباره للشكل وللصورة عن مجموعة لوحاته الكبيرة لسنتي 1961 و1962 في موضوع العري حيث أعاد أهمّيّة الموضوع في فنّه إلى المرتبة الثانيّة. الأمر الذي أدّى بالنسبة إليه، على نحو أكثر فأكثر طغياناً، إلى تجذير ضرورة الابتكار والتعبير التشكيلي. فليس التجريد في ذلك سوى شكل حرّ، يتطلّب اعتباطيّته، الوضع الذي سيولّد انزعاجاً عميقاً في الرسم اللبناني المعاصر، نظراً إلى كونه يعيد إلى بساط البحث مسألة الحدود بين التصويري والمجرّد.

يبقى خليفة بعيداً عن مشكليّة التمزّق، أو المحاكاة، أو سكون الموضوع. فالردّ على غياب التمثيل لديه ليس التجريد، بل هذا الانتاج التشكيلي الذي، بعد فترة بحث طويلة، بلغ الأوج في المعرض الكبير سنة 1973 في مركز كنيدي. إنّه يتمتّع باللون وبشغل يتّخذ حضور اللون فيه طابع الملموسيّة؛ لون تتشبّع اللوحات الكبيرة من معجونه، بحيث لا يعود إدخال العناصر التصويريّة عليه تلميحيّاً، بل يتعلّق بهذا الشغل على الملموس.

وجد نفسه مسوقاً إلى التوسّع في التعبير، انطلاقاً من عنف قديم مكتوم، مردّه جزئيّاً إلى عدم فهمه من جانب الجمهور والنقد، في رسم كان يستوعب العناصر البصريّة، العري الأنثوي خصوصاً، لكن على الأخصّ قسماً من هذه النواة المكوَّنة من انفعالات وعواطف. كان قد توجّب عليه، كي يصل به الأمر إلى هذا الحدّ، أن يشدِّد أوصال أعماله الفنّيّة، الأمر الذي لم يمرّ بلا مصاعب كبرى. وجد خليفة نفسه، وهو رجل عِشرة، يتزايد انعزالاً في صحبة رسّامين ذوي عقليّة ضيّقة جدّاً، حيث لم يكن بارعاً في لعب لعبة الترويج لهذا الفنّ اجتماعيّاً. كانت سنوات الخمسينيّات والستّينيّات هذه مكرّسة من قِبَل الرسّامين اللبنانيّين لجعل مهنتهم تلقى القبول ولإيجاد طريقة لدمجها في الدورة الاقتصاديّة والاجتماعيّة في البلد. كان العنصر الأكثر إدهاشاً لدى خليفة مرتبطاً بطبيعة عمله بالذات. فها أنّ رساماً كان قد درس وعاش عدّة سنوات في باريس وما كان ليعود لولا رسائل فؤاد حدّاد. وهو مع ذلك لم يُطِلِ الوقوف عند مشكليّة باريس ـ بيروت. صحيح أنّ باريس قد حرّرته، لكنّه قام بنفسه بصوغ لغة تشكيليّة بلغت، حوالى أواسط السبعينيّات، أصالة وحضوراً حقيقيّاً. كان يتموضع في مشكليّة وفي نظرة تاريخيّتين، حيث لم تكن باريس، في آخر المطاف، إلّا المحفِّز البدئي.

كان خليفة يرسم كما كان يريد، وبالمكوّنات التي شكّلها فيما كان يعمل على مختلف الامكانيّات التي يتيحها الرسم، دون أن يكون قد اعتبرها في حينه تجريبيّة بالضرورة. بدا كأنّه كان يختار طريق تطرّف غير مبرَّر في رسم لبناني شديد الحذر تقلقه سلفاً نتيجة اللوحة أكثر من اللوحة نفسها. إلّا أنّه مع ذلك كان من الرسّامين النادرين الذين قادهم هذا الطريق إلى ما كان يريد. رفض آخرون أن يسلكوها ملتزمين جانب الحذر، ناسخين ممّا قبل التيّارات التاريخيّة أو ممّا بعدها، متّخذين موقع التفارق. كذلك كثيراً ما أحجموا عن خوض المجازفة لنقص في التقنيّة ولضيق أفق ثقافي.

كان خليفة يمتلك وعياً مرهفاّ بالأشكال. وهذا ما يفسّر المنحى التشكيلي الذي أتاح له العبور من رسم تصويري لا يخلو من الأناقة الشِعريّة إلى تجريديّة تدريجيّة، لكن دون أن يجعله يتحوّل بذلك إلى نزعة هندسيّة كان يمكن، في حالته، أن تُعزى إلى اللعب العبثي. فهو إن كان يُجسِّم الرسم، فلأنّه كان بحاجة إلى كثافة المعجون، معادِلاً بالنسبة إليه لكثافة العالَم الحقيقي. وإذ كان مقِلّاً في الرسم وبلا وسائل ماليّة ضخمة، لم يكن في متناوله دائماً لوحات كبيرة المقاسات حيث يكون غاية في الارتياح لأنّها تتيح له، بتوازن القوّة واللون وبالشغل على المعجون، أن يُفصِح عن انفعالاته، ومشاعره، وسعادته بأن يرسم ممزوجة بممارسة الرسم نفسه.

تَعَرَّض خليفة لكلّ حالات سوء التفاهم وكثيراً ما نُظِرَ إليه كمستسِهل للتجريب، لا يتوانى عن طلب وصفات شغله في أيّ مكان. لكنّه عرف كيف يترجم الانفعالات والمشاعر واللغة التشكيليّة لدى امرِءٍ يعتبر الرسم رهانه الوحيد.

هناك في جيله وفي الجيل الذي تلاه سِيَر حياة قريبة من سِيرته. إلّا أنّه، بفعل إصراره و بفعل جاذبيّة جوّانيّة، كان الوحيد في عدم تفريطه بالتنازل عمّا كان يريد، وفي امتلاك الموهبة وإمكانيّة التجريب، حتّى الفشل أحياناً، على الامكانيّات التي كانت تُتاح له.

كيف كانت نظرته إلى نفسه في مجرى الرسم اللبناني؟ لقد أخذ يتراجع شيئاً فشيئاً عن طرح مسألة الموقع الذي كان هذا الفنّ يحتلّه في الرسم المعاصر، بل في تاريخ الرسم. كان الأمر يبدو له ثانويّ الأهمّيّة تماماً في المعاصرة الحقيقيّة التي كان يعيشها، وكان عليه أن يضطلع بها دون المضيّ في طرح أسئلة حول وسط اجتماعي لبناني لفنّ الرسم كان يمضي نصف وقته في حبك المؤامرات.

لم تكن براءته دائماً من باب السذاجة أو من باب قِصَر النظر، كما أراد بعضهم أن يظنّ. كانت تتعلّق بالأحرى ببَوْن زائد بين الواقع الاجتماعي والادراك الفنّي لما كان الرسّام يفهمه في ظنّه. رسم خليفة في منتصف الخمسينيّات لوحات تتناول أوضح ما في الواقع  اللبناني، بالوسائل الفنّيّة والتشكيليّة الأكثر إتاحة لأدائه.

العالَم لا يُعفي أبداً مِن وِزر فَهْمه، لكنّه يواصل استدعاء صدى مَن يطرح السؤال، هذا الذي يكون السؤال الذي بلا جواب جرحاً لديه ما من شيء يَبْضَعُه. كان خليفة يتصوّر أنّه  بمفرده إنّما يعيد صنع كلّ الرسم في العالَم. هنا براءته، لكن كذلك قوّته.

عرض جان خليفة سنتي 1960 و1961 في صالة أليكّو صعب؛ ومن 13 إلى 20 تشرين الثاني/ نوﭬﻤﺒﺮ 1962 في فندق كارلتون؛ ومن 17 أيّار/ مايو إلى 8 حزيران/ يونيو 1963 في صالة جامعة باريس؛ ومن 3 إلى 12 تشرين الثاني/ نوﭬﻤﺒﺮ 1964 في فندق سان جورج في بيروت؛ وسنة 1965 في جريدة لوريان؛ وفي دار الفنّ سنة 1970؛ ومن 16 آب/ أغسطس إلى 4 أيلول/ ﺳﺒﺘﻤﺒﺮ 1971 في صالة متحف أشموليان Ashmolean في أوكسفورد؛ ومن 24 أيّار/ مايو إلى 4 حزيران/ يونيو 1971 في مركز كينيدي في بيروت؛ ومن 21 إلى 31 آذار/ مارس 1972 ثمّ من 23 كانون الثاني/ يناير إلى 5 فبراير 1973 في صالة مودولار Modulart في بيروت.

جاء خليفة والباشا في باريس أواخر الخمسينيّات بهذه الرغبة في المعاصرة التي تُمثِّل شبابهما الحقيقي، أي، أقلّه، الحاجة إلى رفع هذه الغشوات من الشطط والتراجع، الأمر الذي لم تتجرّأ الطبقة السابقة على القيام به.

يجب أن يقال كذلك إنّ هذا المنظر اللبناني كلّه كان لا يزال سنة 1950 مسحوقاً تماماً بالحضور الملحاح، حتّى دون أن يكون أكاديميّاً، لقرن كامل من الرسم، القرن التاسع عشر.

قراءته داخلة في طريق مسدود، أكثر من تاريخه وتاريخيّته وسياقه، في مواجهة صعوبة فهمِ محرِّكاتِ ودوافعَ وسِيَرَ وفِكَرَ مسارٍ يَتَّسمُ بالتشوُّش وبالارتجاج معاً.

فماذا يُرتجى منه؟ إمكانَ فتحِ جوفِ رسّامٍ، مثلما يُفتَح الفرّوج، وفهمِ الدواخل تماماً، القيامِ بتشريحٍ فكريّ وذهنيّ؟

يبدو الرسّامون اللبنانيّون كافّة يكرّرون الحلّ نفسه والمسألة نفسها لا يتغيّران. المتغيّرات الوحيدة هي المعطيات السوسيولوجيّة، والثقافيّة، والعائليّة. إنْ هو الرسّامُ نفسه يرسم ويعيد الرسم نفسه الإيقاعَ اللفظيّ للاسم. الخالقُ الغريب الذي يبوح بكامل سِرِّ الخَلق والحقيقة مستبعدٌ نهائيّاً ولا يتكلّم هذه اللغة.   

لدى خليفة طريقة في لمس اللوحة أشبه بالاستبدال النَزِق لما ينطوي عليه من اليأس وتحمله حصافته كلّ مَرّة على تقدير ما لليأس من حدود.

بالتالي كانت حدود حصافته نفسها تجعله يعي واقع عجزه عن أن يضع حدوداً لانسداد الطريق أمام الرسم الذي يمارس، أو أن يجد لنفسه الوسائل لإرجاء هذا الانسداد. إنّه يتحدّر من هذا الوسط الإكليريكي الماروني الذي أدّت براءته وعلاقة الثقة التي ربطته بالرسم، وفي حالة خليفة بالرسم التجريدي مُماهياً إيّاه مع نفسه، إلّا أنّه لم يفهم حجم الخيانة إلّا متأخّراً جدّاً، عندما جاءت لوحاته الكبيرة التجريديّة والملوّنة في بداية السبعينيّات لتؤكّد موهبته وامتلاكه سِرّ اللون؟

الفنّ خطاب لكنّ الكلام يدور على خطاب آخر، وأيّ خطاب؟ ينبغي الانتقال إلى مستوى آخر من تاريخ أنواع التمثيل وعالَم الخيال والتجرّؤ على مغادرة إطار قراءات النوادر والاجتماعيّات والسوسيولوجيا، وعلى وجه التخصيص مغادرة الإطار الثقافي للحتميّة  التي لم تعد تُظهِر تاريخ الرسم اللبناني إلّا كدرس في السوسيولوجيا التطبيقيّة. كذلك تسمح الانثروﭘﻮلوجيا الثقافيّة المقارَنة بالانتقال إلى قراءة الرموز وتفارقاتها. هذا في حين أنّ السؤال الحقيقي يدور حول معرفة إذا كان الأمر يستحقّ كلّ هذه الجهود.

يطال تاريخ أشكال الخيالي والتمثيل على أنواعه قُطبَيْن مَرَدُّهما إلى الفرد الذي يكون نتاجه على ما يكفي من الثراء بحيث يستحقّ الغوص فيه، من جهة، وإلى السوسيولوجيا  الغامضة المعنيّة بالأشكال حيث تاريخ الفنّ لم يعد إلّا طريقة لإنقاذ النادرة.

 فنّ الرسم اللبناني لم يغادر الانطباعيّة بعد، أي لم يغادر هذا التمتّع غير المؤكَّد بالعالَم، العالَم الموضوع بين هلالَي حُرّيّة عُمرها قرنان أو ثلاثة.

ما يهمّ فهمه هو هذه القراءة للانطباعيّة، كيفيّة إدراكها الحسّي في العمل الحِرَفيّ وتدريب اليد.

bottom of page