top of page

جبران، جبران خليل

بشرّي (لبنان)، 6 كانون أوّل/ ديسمبر 1883 – نيويورك 10 نيسان/ إبريل 1931

تطرح حياته سؤالاً: كيف تُعاش المنافي، وتعدّديّة المدن واللغات والثقافات؟ تَوزَّع جبران خليل جبران بين ثلاث مدن: بيروت وباريس ونيويورك؛ وثلاث لغات: العربيّة والفرنسيّة والإنكليزيّة؛ وثلاث ثقافات: الفرنسيّة والإنكليزيّة والعربيّة؛ وأخيراً، بين نمطَي تعبير: الأدب والفنّ. لم يُبدِ أبداً خياراً نهائيّاً بين موهبتَيه هاتين، الرسم والكتابة، ولا توقَّف عن الانتقال من الواحدة إلى الأخرى. كان كِلا النمطين من التعبير سنداً لبحث فنّي وأدبي وروحي، يبدو فيه أنّ اللغة والفنّ واقعان ما دون التعبير، كما في منزلة بين بلايك Blake ونيتشه Nietzsche، ويختلط فيه الأسلوب بالكلام النفعي.

تطرّق جبران، الماروني من لبنان الشمالي، إلى ما كان يدركه من هذه الأصول، بهالة التبجيل التي أحاط بها إدراكه لأميركا التي هاجر إليها. كان في حداثة سنّه، في حيّ تشايناتاون Chinatown، حيث أقام من 1895 إلى 1898، قد تعهّده هولاند داي Holland Day، الذي دفعه إلى رسم تصاميم كتب، وعرّفه إلى البعض في مدينة بوسطن Boston. صمّم لبنانيّ تشايناتاون على تلقين بوسطن كلّها، ثمّ أميركا كلّها، درساً لا تنساه. سيُوفَّق إلى ذلك آجِلاً. إذ إنّه، سنة 1898، عاد إلى لبنان وانتسب إلى مدرسة الحكمة، حيث تعلّم العربيّة. وزامل في الدراسة يوسف الحويّك، ابنَ شقيق البطريرك الماروني، والنحّاتَ لاحقاً، والوجهَ البارز المتعدِّد الأَبعاد في عالَم الثقافة.

عاش جبران خلال السنتين 1908 ـ 1909 في باريس. وتُبيِّن ذكريات الحويّك بوضوح، إذ كان هناك معه، التأثير الذي كان يمارسه آنذاك على صديقه. كان جبران يشتغل على رسومه، ويمكن افتراض أنّه، بوجه ما، دفع الحويّك إلى أن يصبح نحّاتاً، كي يحقّق رسومه نحتاً. كانت نظرته إلى فنّ النحت كمجرّد حِرْفة تعبيراً عن انتقام على طريقته من رودان Rodin، الذي لم يلتقه إلّا مرّة واحدة أَلْفاه فيها عاقداً اللواء سِرّاً للشاعر ريلكه Rilke، واعتبره، في علاقة متخيَّلة، وجهَ الأب الفنّي، المعبود والمكروه في آنٍ معاً.

على أنّ الاختبار الأساسي، بالنسبة إلى جبران، كان أميركا. كانت الهجرة اللبنانيّة عند منقلب القرن التاسع عشر تتّجه نحو مصر التي كانت تستقبل خصوصاً مثقّفين وتجّاراً، ونحو أميركا فيما يخصّ العدد الأكبر. ويمثّل جبران أفضل تمثيل طريقة تعاطي اللبنانيّين مع أميركا هذه. كان ينتظر منها قبولاً تاماً وانتهى بالحصول عليه في هذا البلد الذي كان يريد دخوله فاتحاً، في وقت، وحدها قوّة الكلمات باتت قادرة على إخضاعها.

وبالفعل، استطاع، بفضل مدرِّسة أميركيّة، ماري هاسكل Mary Haskel، أن يلامس نهم الأميركي الوسط في شؤون الروح. علّمته الكتابة بالإنكليزيّة، وتولّت تربيته في مجال كانت ترى أنّ تلميذها، بطبيعته، متفوِّق عليها فيه. وانطلاقاّ من هذه العلاقة تحديداً وعبر إسقاطها نصّاً قام بخلق شخصيّة النبي، كتوليف متنافر أحياناً لمؤثِّرات مختلفة. كان المقصود، طبعاّ، نبيّاً لمزارعي الغرب الأميركي الأوسط، لكن هكذا كان يجب أن يكون الأميركيّون كي يتمكّن هو نفسه من أن يصير ما كانه. الكاتب ذو الخُفّ المخملي، جعل من نفسه صانع خوارق، بالحسّ الإخراجي الضروري لتلافي الكارثة التي يستشعر إرهاصاتها.

إلّا أنّ هذا الوجه العصابي والهذياني إلى حدّ ما، لدى جبران، كان ينطوي على أسباب فشل مشروعه وطموحه، وبالتالي، أيضاً وبالضرورة، فشل الفنّان. هل تراه أراد تبشير أميركا بأكملها وهدايتها إلى فلسفته في ربوبيّة الوجود، إلى صوفيّته، إلى قوله بدِين الحبّ، هو الذي لم يكن ليجهل، نظراً إلى أصوله الشرقيّة، أنّ الحبّ لا دِين له؟ أم أنّه كان مُفرِطاً في اقترابه من الدِين في قراءته اﻟﭙﺮوتستنتيّة التي ليست من الحبّ في شيء مع كلّ الأجساد التي تُحشر في الأحلام والكوابيس الفردوسيّة؟ لقد تصرّف، على كلّ حال، كشرقيّ يؤرِّقه الهمّ حوّلته متاهات المنفى إلى قسٍّ ﭘﺮوتستنتي.

كان يسكنه منذ بداياته سرّ الشرق، ومعه، كذلك، جانب ممّا رَفَدَه لاحقاً، ويتخطّى غرائب المشهد الأميركي، عندما أخذ كلّ ذلك يختلط في ذهنه: بلايك ومَدام بلاﭬﺎتسكي Mme Blavatsky التوراة والانجيل. عمد إلى التوليف بين المسيح وبلايك ونيتشه، الذين كانوا ينبشون طاقته، وطموحه  إلى قول كلّ شيء دفعة واحدة، في شكل يضطلع بما كان قد تعلّمه من الغرب، وفي الوقت نفسه، بإرث الشرق كلّه – أو، أقلّه، ما ظنّ أنّه أدركه منه بصفته متحدِّراً من عائلة تعود أصولها إلى العراق، بلد الهوس بالآلهة الأكثر إغراقاً في القِدم.

هل كانت صوفيّته جِدّيّة؟ هناك، في الصورة المكوّنة عنه، أقلّه في لبنان، مقدار كبير من التقويم المزدوج الذي يوحي به الماروني الذي نجح. وهي صورة كانت، بعد وفاته، أقلّ تعديلاً لمكانته في النفوس من تكشّف دوافع الأفعال التي كانت تبدو أبعدها عن الغرضيّة. فهو، إن لم يكن في حياته الخاصّة – حيث تعلّق الأمر بتشغيل الألفيّة لصالح الأميركيّة التي كانت تحيطه، مع عذاب مي زيادة في البعيد – فأقلّه في أسطورته وكتاباته، حقّق توليفة نبوئيّات الشرق، وابتدع لنفسه ديانة جديدة: الأدب، بكلّ بساطة. ذلك أنّه حقّق حلم بلايك، لكن كقسّ ﭘﺮوتستنتي يقوم بتعذيبه نيتشه الذي، نظراً إلى كونه يعتبر نعمة الجسد الخلاص الأوّل، يكمن الفردوس بالنسبة إليه في عذوبة الكلمات، وسحر اللغة الإنكليزيّة القادرة على أن تُحمِّل الكلمات بالذرائعيّة العملانيّة التي تجعلها أكثر واقعيّة، وأكثر قرباً، في اشتهاء المستحيل وتذوُّقه. 

       

حقّق جبران الكاتب، من البداية، حضوراً أكيداً. كان قد أدرك، منذ نصوصه الأولى باللغة العربيّة، ضِيق مجال انتشارها، وأنّ لا بقاء لمجرّد التمرّد إلّا مقتاتاً على ذاته إلى ما لا نهاية. توقّف سنة 1918 عن الكتابة بالعربيّة.

لم يكن عالَم الفنّ لدى جبران إلّا تصويراً لعالمه الداخلي والشاعري؛ الشعر في ذلك هو التَحقُّق بالتصوير. غير أنّ التصوير والرسم ينتميان في نهاية المطاف إلى نشاط يُعتبَر في نظره ثانويّاً. في رسومه، لا حياة للاجساد الخارجيّة إلّا في ميلها إلى الاندماج في استيهاماته، في طموح المنفيّ.

لم يتمّ إلّا لاحقاً فهم أنّ هذا الطموح لم يكن إلّا تمويهاً لتدارك كارثة وشيكة، ولكون كلّ هذه الأجساد لم تَمُت إلّا من أجل آلهة غائبة. يتوقّف كلّ شيء، بالنسبة إلى الفنّان – أي إلى الانسان في صيرورته – على معرفة إلى أيّ حدّ يستطيع أن يصمد في مواجهة مجموع عذاباته. عاش جبران كلّ التمزّقات الداخليّة دون أن يجد دوماً جواباً شافياً، ولذا ترك لقرّائه حساباً غير مُفقَّط.

كان السؤال المطروح لديه، يتناول، فيما يتخطّى مسيرة الفرد، العلاقة بين العوالم والثقافات، والطريقة التي تتيح للمرء الانخراط في هذه العلاقة ليقوم بوظيفته في كلّ من جانبيها.

والخلاصة، كان السؤال، من حيث الجوهر: كيف يمكن مجابهة الغرب، وكيف يمكن الردّ على المنفى؟ كان ضخّ كلّ هذه الثقافات يقترن، في كتابته، بحاجة مطلقة إلى التمايز عنها، وإلى ابتداع لغته الخاصّة وشكله الخاصّ. كان هذا بالنسبة إليه أصعب الأمور وأكثرها إيلاماً.

أقام جبران معرضاً سنة 1914 في صالة مونتروس Montross في نيويورك، وسنة 1917 في المدينة نفسها في صالة نودلر Knoedler. كذلك أقام معرضين في بوسطن. ويضمّ المتحف المكرّس له في مسقط رأسه في لبنان قسماً من رسومه ومن لوحاته.

jubran.jpg

جبران خليل جبران، نيويورك، دون تاريخ

bottom of page