
منير نجم، دون عنوان،دون تاريخ

منير نجم، العائلة، 1973

منير نجم، دون عنوان،دون تاريخ
نجم، منير
دير القمر (لبنان)، 24 كانون الأوّل/ دسمبر 1933 – باريس، 1987
أمضى منير نجم السنتين 1951 ـ 1952 في مرسم قيصر الجميّل، قبل أن ينتسب إلى الأكاديميّة اللبنانيّة للفنون الجميلة (ألبا ALBA) من 1952 إلى 1955. ودرس في باريس على التوالي في المدرسة الوطنيّة للفنون الجميلة (1955 ـ 1956)، وفي أكاديميّة لا غراند شوميير la Grande Chaumière (1956 ـ 1959) وعند أندره لوت André Lhote من 1957 إلى 1959.
من الملفت أنّ كلّ اللبنانيّين الذين تابعوا تعليم لوت، وليجيه Léger، ومتزنغر Metzinger، وغوتز Goetz، تلقّوا منه حافزاً إلى الحداثة وشهوانيّة تجريديّة كانت تجد صدى لها يتجاوب تماماً مع حساسيّتهم الشرقيّة. وقد ساعدهم ذلك على البقاء على مسافة إزاء الوجوه المحلّيّة اللبنانيّة، وفي أغلب الأحيان إزاء نمط التعليم في الأكاديميّة (ألبا) التي كانوا قد تخرّجوا منها والتي حملتهم على التوجّه نحو الفنّ الرسم التجريدي.
الفنّ التجريدي الذي يُنظَر إليه كلغة طبيعيّة، والذي كانت الأسئلة الوحيدة المطروحة في شأنه لا تتعدّى الأسئلة التقنيّة، المتعلّقة باللوحة في الصميم، وليس بالمسألة المطروحة في البداية في شأن الخيار بين أسلوب وآخَر.
كان هذا التحوّل بعيداً جدّاً عن المقاربة البيروتيّة أو، أقلّه، مختلفة عن مقاربة تلك المرحلة، حيث كان أولئك الفنّانون، وهم بعد طلّاب شباب، يكافحون بسلاح من أبجديّة الوجه المكرَّس، حتّى لو كان خارج كلّ مقاربة تاريخيّة، وكان عليهم، دون أن يعوا الأمر على الاطلاق، أن يقصروا خيارهم الوحيد بين «الانطباعيّة باللمسات» على طريقة قيصر الجميّل أو السيزانيّة المعدّلة بمسحة إيطاليّة على طريقة فرناندو مانتّي Fernando Manetti.
واجه نجم في باريس تفكيك الوجه من قِبَل التكعيبيّة، التي رأى فيها تصوير المماثلة الغربي مدمّراً بالوسائل التي تخصّه. وبالتأكيد، كان للوت تأثيره البالغ في ذلك، وهذا ما كان نجم يحتاجه. لم يَعُد تعليم لوت وهو يتقدّم في السنّ مجرّد تعليم يعود إلى ما ـ بعد ـ التكعيبيّة، بل اكتسب حصافة في الفهم التشكيلي للوحة وفي تفكيك عناصرها؛ إنّه الوقت الخاص بنهج تربوي أوروﭘﻲ كان يتخبّط في إعادة الإعمار بعد الحرب ويجد نقطة ارتكاز في استعادة التكعيبيّة. وكان لوت، على أيّ حال، مربّياً كبيراً أكثر من كونه فنّاناً، لكن هذه حكاية أخرى.
كان لإعادة الإعمار الفني، بالنسبة إلى اللبنانيّين، علاقة بنشوء متطلّبات ترتبط برؤيتهم الخاصّة: الشرق، الهويّة، أشكال أخرى، ألوان أخرى، نور آخر، والتعبير عن هذا كلّه على اللوحة. لم تُطرَح المسألة بهذه التعابير دفعة واحدة من البدء. فقد ظهر فعلاً حتّى بداية الستّينيّات نوع من نزعة أكاديميّة خاصّة بالفنّ التجريدي تكمن قوّتها في طرح المسألة خارج نزاع تصويري ـ تجريدي، إلّا أنّها نزعة كان من الغريب أنها تجد مكانها في منظور لغة تصويريّة تغتني بما جاء به التجريد. لذا قامت تجربة كتجربة جورج سِير Cyr على غياب الزمن التاريخي وعلى سوء تفاهم هذا الزمن الممكن.
كان ظهور المعترك في باريس أكثر وضوحاً تبعاً لكون إقامة المسافة قد تمّت على نحو أسرع، ولأنّ إعادة بناء رؤية خاصّة كانت تتمّ في وقت كانت لغة الغرب تتفكّك. كان سِير في أواخر الأربعينيّات قد مرّ بأزمة متعلّقة من حيث الجوهر بمكانه في تاريخ الفنّ وبالطريقة التي قد تمكِّنه من أن يدمج في ما ـ بعد ـ التكعيبيّة سنواته الثلاثين من الرسم في لبنان والرسم الذي ينتج في باريس.
ما كان نجم يراه إذ ينظر إلى ما حوله، هو تجربة الجيل الأوّل من طلّاب الأكاديميّة (ألبا)، الذين لم يكن يفصله عنهم سوى بضع سنوات. كانت تلك التجربة تبدو له هروباً إلى الأمام وملاذاً مستحيلاً. ونكتفي بمثل واحد هو أنّه كان يتعذّر على الفنّانين الشباب، لأسباب ثقافيّة وماليّة، أن يذهبوا إلى نيويورك. كانوا مضطرّين إلى الذهاب أبعد من ذلك بكثير في العمق، والمضيّ قُدُماً في اللوحة نفسها. والصادم في الأمر، حتّى بالنسبة إلى جيل أنسي وفرّوخ والجميّل، أنّ الحداثة كانت بالفعل معقودة الراية للجميّل، بانطباعيّته، على مستوى بناء اللوحة واستعمال الريشة، في حين أن فرّوخ وأنسي، من جانبهما، كانا يشتغلان باللغة وبالوسائل الأكاديميّة.
ففرّوخ، أقلّه فيما خصّ القسم الأكبر من نتاجه، وربّما بلا دافع غير مَيل حقيقي لديه، لم يبتعد أبداً عن رسم الخط المحيط، الحدّ الفاصل. كانت مسألته الأولى تدور حول التقاط التشابه، هَوَس عالَم المؤدّى، نظراً إلى أنّ الجمهور كان يبدو عاجزاّ عن قراءة وتقدير ما عدا هذه الصعوبة وقد تمّ التغلّب عليها. وأنسي، في رسومه المائيّة الأولى، كان يهيّئ خلفيّة ملوّنة ومن ثمّ يروح يرسم بطرف الريشة. لكنّه، لاحقاً، بعد إقامته في باريس، وعلى رغم التناغمات التاريخيّة في الحداثة، لم يكن يرى في تيّارات الفنّ الحديث، من التكعيبيّة حتّى التجريد، إلّا تدميراً للفنّ، واعتداء على قدسيّة تاريخ الفنّ. وتتملّكنا الدهشة إذ نلاحظ كم هو اصطلاحيّ هذا التقيّد بالأشكال في التصوير، في حين أنّ خلفيّة ما ينطوي عليه بالغة الغنى.
كان أنسي يفهم الانطباعيّة كمؤدّى فوري. وقد دأب على تحقيقه بغماميّة مقشعرّة، كنحو من رسم بالألوان المائيّة للأحاسيس، كنوع من تبليل المنظر كي يُؤدّى، إلى حدّ انتفاء الرسم ليبقى الماء. طريقته في التقاط المشهد وتثبيته بشموله، حساسيّته، مع عدم استطاعته صرف النظر عن التفاصيل التي كانت بالنسبة إليه معالم لازمة لتقدّم قراءته الخاصّة للوحة، كانت تعترضها الرغبة في مراكمة التفاصيل اللازمة لتحقيق التشابه. كان الفنّان، بالنسبة إلى أنسي، يحضر بكامل ذاته في لمسة الريشة التي تؤدّي التشابه وتُغْنيه بكيفيّة الرؤية.
لكن كيف السبيل إلى فكّ الارتباط بين لمسة وخطّ يزدادان لصوقاّ بقَدْر كون ما يلاحقانه يتوارى، بفعل التوسّل التقني لمحاولة تأديتهما؟
بالفعل، كان واجب التأدية ودقّة التفاصيل يعيقان تشويش الانطباعيّة. فتَسلُّط اللمسة الانطباعيّة لدى الجميّل يعطى مؤدّى يَصعُب تَعرُّفه، إذ يظنّ أنّه المؤهّل وحده لتأدية الجسد ولالتقاط الضوء بالإمعان في الهرس. كان الجميّل أقلّه يحلّ جزءاً من المسألة لنفسه طلباً للذّة الرسم. كان تبرير ممارسته التشكيليّة ينتقل من توخّي التشابه إلى التمتّع، دون أن يفهم الطريق المسدود الذي كان يزجّ تلامذته فيه عندما كان هؤلاء يحاولون تقليد تقنيّته دون أن يمتلكوا الوسيلة التي تمكّنهم من المضي قُدماً.
وفي المحصّلة، يكشف النزاع بين ما هو معقول على المستوى البصري وتجانس التقنيّة التشكيليّة، بين ما يراه الفنّان وتنوّع مختلف التفارقات، جزءاً جوهريّاً من مجرى شخصي تماماً لتاريخ فنٍّ يصبح تاريخاً لفرد في مجابهة مع خياراته، وذلك خارج زمن تاريخي. فالواقع كموضوع لفنّ الرسم يبتعد عن الصورة عندما يتعيّن عليه أن يُنقَل بتقنيّة رسم متقدّمة – هنا، الانطباعيّة – في حين أنّ الجميّل لم يكن ليجرؤ على المضيّ قُدُماً في الشيء الوحيد الذي يحمله على أن يرسم، انفعاليّة اللون والشكل، وكان يتجمّد في الاستنساخ ليحوّل فنّ الرسم إلى تلوين، مختزلاً مسألة تاريخ الفنّ إلى تقانة بسيطة، إلى مجموعة من الوصفات العمليّة.
أمّا نجم، فحين تجاوز هذا التسلسل الزمني، لم يتجاوز بذلك المسألة التي طرحها الجميّل، وكان قد تردّد على مرسم هذا الأخير لثلاث سنوات قبل ان ينتسب إلى الأكاديميّة (البا). فتمايز الفنّ الشرقي، والرغبة في العثور على ألوان معيّنة، وعلى نور خاصّ، هي المسائل التي جعله الجميّل يتحسّسها، وهذا ، طبعاً، في إطار انطباعي تجريدي يتّصل بالممارسة التشكيليّة، بعد مرحلته التجريديّة البحت.
تنقلب التقنيّات التشكيليّة إلى وصفات جاهزة عندما لا يكون في متناول الفنّان، حتّى لو كان قد اختبر تلك التقنيّات من الداخل، ما يمكّنه من بناء شيء يعطيه الشعور بأنّه يخصّه شخصيّاً، بأنّه ليس مجرّد تنويع في تأويل التيّارات التشكيليّة والفكريّة التي لا يشارك فيها حقّاً. فعندما أصيب نجم بحالة توحّد أليم أوقعه فيها تعقّد تركيب التجريد، وعندما أدرك أنّ معترك فنّه قائم في لبنان، وجد في بحث أصدقائه الصدى الذي يَلزَمه كي يتمكّن من مواصلة عمله. كان في بداياته قد مارس انطباعيّة تجريديّة، تعود في تصنيفها إلى ما ـ بعد ـ الرومنطيقيّة حسب طريقة انبنائها بمفردات تاريخ الفنّ. وهو بعمله على تنقية هذه المفردات وبتوسّله مواضيع أسبغ عليها الشاعريّة حيث كان الشكل يتحوّل إلى لون، بدا أنّه عاد ليأخذ في الحسبان كلّ الامكانيّات المحتمَلة في إرث تشكيلي تكون فيه الحساسيّة القصوى إزاء اللون مقترنة على نحوٍ غريب مع أعلى درجة من انعدام الحساسيّة إزاء الشكل.
لاحقَ نجمٌ الشكلَ لكن بهدف أن يضمّنه اللون فقط. ولا يتعلّق الأمر هنا بمجرّد تمييز بين مُصوِّرين ومُلوِّنين. وكان ما شرع به، بعدما استبعد التفارق التاريخي إزاء أوروﭘﺎ، محاولة للتنظير، على سبيل تكوين تأريخه الخاصّ للفنّ بما لديه من معطيات: الـ«ألبا»، تجربة باريس، الجميّل، الفنّانون اللبنانيّون المقيمون في باريس (عبّود، عوّاد، الباشا)، وأصدقاؤه في بيروت (سكامنكا، الصغير، الأشقر). كان يرمي إلى أن يستبدل فارق النظرة التاريخيّة بتطلّب تأسيس قراءة أخرى، بتاريخ للفنّ يخصّه، أو، أقلّه، يبرِّر ممارسته في فنّ الرسم. لم يكن ينقص ذلك لا التعليميّة ولا التبسيطات بالمعنى الحَرْفي للكلمة، إلّا أنّ الخطوة التي خطاها أتاحت له أن يواصل الرسم دون ذلك التوتّر نتيجة تباين عند أرضٍ ما كانت لتكون له أبداً لو كان عليه ألّا يعمل إلّا بالنسبة إلى باريس.
من المؤكّد أنّ هذا الموقف لم ينشأ عن مجرّد ردّ فعل إزاء الغرب. فما كان موضع الرهان كان أعمق من افتراق بين شرق وغرب. كان الأمر يطال تذوّق الفنّ وممارسته. ونجد هنا بين السطور تاريخيّة الجميّل، على رغم تقنيّته نزولاً عند ذوق الجمهور.
ذهب نجم ألى ما هو أبعد من التجريد وابتنى تباعاً قاموساً غير مَدين، في أفضل الحالات، إلّا لنفسه، بتعبيريّته التشكيليّة، دون تغييب التفاوت في إنتاجه.
بالفعل، كانت عناصر هذا القاموس تغطّي تماماً حقل الحساسيّة إزاء الشكل بكونها مستعارة من كليه Klee وماكه Macke. لكن إذا كانت هذه الأشكال جديدة بالنسبة إليهما وإلى مدرسة الاستشراق التشكيلي الألمانيّة، هي كانت أقلّ جِدّة بالنسبة إلى الفنّ المعاصر. فقناطر اللون ومربّعاته تظلّ ما دون الشأن التشكيلي؛ وإذا كانت تصلح لبناء اللوحة هي في المقابل تشدّ الـمُشاهد إلى الوراء عن طريق الاستعانة بالمراجع وتشويش عمل اللون.
كيف السبيل إلى الإشراك في الاحساس دون الاضطرار إلى ترتيب بنية الإطار بالمألوف للأنظار؟ حلّ نجم هذه المسألة في بعض لوحاته إذ قرّر، بكلّ بساطة، عدم استخدام بنية، وبالدخول في اللون مباشرة. وبتأثير من أصدقائه الألمان، نادى بفنّ شرقي على سبيل المجاهرة بالاشتراك في هويّة. ومن الملفت أنّ تكون هذه الدعوى في حالته قد مرّت بقراءة أوروﭘﻴّﺔ مسبّقة، في حين أنّ المصادر كانت أمام عينيه بالمعنى الحَرْفي للكلمة. لم يكن في استطاعته أن يقرأها إلّا بتداعياتها السوسيولوجيّة. هي دعوى وهي في الوقت نفسه تعريف بالهويّة استناداً إلى معطيات فنّ محلّي، بالتالي إلى استمراريّة تاريخيّة، إلّا أنّ منير نجم كان بذلك يستمدّ آليّاته العائدة إلى الأصل ممّا كان يقول إنّه أحاسيس وذكريات من الطفولة، مُرافقاً والده فجراً في رحلات الصيد، ورائحة الغابة ولون الضوء.
لا شكّ في أن الجميّل دعمه، وقد اكتسب من انتسابه إلى دار المعلّمين في بيروت همّاً تعليميّاً، لكنّ قراءته بالتدرّج للتأثيرات التي كان يتمثّلها تُبيِّن إنّه لم يفعل أكثر من الصعود إلى القطار أثناء سَيْره، عندما تسنّى له ذلك. كان ينادي بمفهوم حيّز شرقيّ يبرِّره بمعطيات من تاريخ الفنّ الأوروﭘﻲ.
كانت الآليّة تتشكّل من الشغل على تاريخ الفنّ في إطار شرق كان يصبح قبل كلّ شيء تغطيةً جغرافيّة، وبالتالي تملّكاً للحيِّز. كان رفض المنظور لدى نجم، وطريقته في أداء الحيّز باللون وبتدرّجات اللون، قريبين من البحوث الألمانيّة في مطلع القرن العشرين. وكان، في أوساط الفنّ اللبناني في الستّينيّات، قريباً من تساؤل عادل الصغير وطريقته. وفي أواخر أيّامه أخذت وتيرة إنتاجه تتباطأ. كان مأخوذاً بقلق شهواني لم يَتأَتَّ له دائماً الاشباع والتفتّح عبر الفنّ وممارسته.

منير نجم، بيروت، 1971

منير نجم، بيروت، 1966

منير نجم، بيروت، 1971