top of page

الروّاس، محمّد

 بيروت، 1951

درس محمّد الروّاس في معهد الفنون الجميلة ـ الجامعة اللبنانيّة (1971 ـ 1975). كانت تلك السنوات بالغة الأهمّيّة لناحية الصلات مع الفنّانين وصحبهم، إذ إن الرسّام يستكشف حساسيّته في عمل الآخرين كما في الطابع الأكاديمي والاستنساخ.

انصبّ اهتمامه أوّلاً على فنون الطباعة، وفن النقش تحديداً. كان يستخدم مطبعة قائمة في السجن المركزي التابع للسراي العثماني القديم – هل كان ذلك ربّما، أقلّه جزئيّاً، لاستبعاد وجع الرأس  الذي تسبّبه حرّيّة التصوير؟ كان يتابع تماوج الأبحاث الجارية من حوله، والتي كانت، في الكثير منها، لا تفضي إلى شيء، إن لم يكن إلى أصالة بأيّ ثمن، لكن من زاوية نظر على درجة من الفرديّة والانغلاق بحيث يتعذّر في نهاية العمل تَجنُّب الضياع. أضف أن التصحّر الثقافي المحيط لم يكن ليتيح أبداً مقايسة أعمال الذات مع أعمال الآخرين، أو مع ما كان يجري في أماكن أخرى.

طرح الروّاس موقفه بوضوح من صناعة الصورة، في بداية عمله التصويري. استهدف منذ سنته الأخيرة في معهد الفنون الجميلة العملَ على الصورة بناءً وتفكيكاً، وتَمَثُّلَ مفرداته وتَعلُّم تحليلها، والتحوُّلَ نحو ما يتيح إدراكه بالوعي. كانت تلك الفترة غنيّة بالتيّارات الآتية من فنون الترويج الشعبي، اﻟﭙﻮپ آرت Pop Art الانكليزي والأمريكي، ومن هوكناي Hockney وكيتاج Kitaj، من الفنون التصويريّة ومجال الإعلان والتصوير الفوتوغرافي في الثلاثينيّات.

إنّنا أمام روح البحث، كعمل يتجاوز الحدود التقليديّة. كذلك الرغبة في نظرة جديدة، وفي مساءلة الواقع، وإن لم يكن دائماً بوسائل جديدة، فأقلّه بممارسة جديدة للوسائل المتوفّرة.

هناك أهمّيّة يوليها الروّاس للالتفات إلى الصورة الإعلانيّة: فعدم رفض الصورة العاديّة، وأدراك أنّها لا تنطوي على المبتذل في شيء، ما دام التعبير يعمل لإيصال ما يراد قوله. فمنهجيّة الإعلان – الإيحاء السيميولوجي، وتحليل الصورة وعملها – تتيح له حلّ التوتّرات والتناقضات التي لا مناص منها بين التصويري والتجريدي، كما مجموع المسائل المتّصلة بالتفارق الدائم في الفن اللبناني بالنسبة إلى ما كان يجري في مكان آخر من العالَم، والمتّصلة، خاصّة، بواقع البلد وبممارسة الفنّان. وقد بات مذّاك يستخدم الصورة كعنصر من اللوحة وليس كهدف في ذاته. فالمطلوب هو بناؤها – حتّى لو أدّى الأمر إلى الوقوع في آليّات الاستنساخ التقليديّة، أو إلى إيجاد تنويعات عليها – وبناء اللوحة أيضاً. إذ إن اللوحة والصورة ليستا، في هذه الحالة، الشيء نفسه.

نال الروّاس، مع شهادة تخرّجه، منحة تخصّص في الخارج، حال اندلاع الحرب في لبنان دون الاستفادة منها مباشرة. سافر إلى المملكة المغربيّة للعمل في التعليم مع استمراره في العمل الدؤوب على المسائل التي كانت موضع اهتمامه.

«ماذا تريدني أن أرسم؟ من البديهي أنّك لا تستطيع أن ترسم إلّا الأخصّ ممّا يمسّك كلّ صباح، الصُوَر، انعكاس العالَم، وصُوَر اليومي، الواقع. كلّ هذا يسهم في تشكيل بطيء للعناصر التي ستدخل اللوحة.»

لم تَعُد الصورة الفوتوغرافيّة لديه خارجية بالنسبة إلى اللوحة، بل يمكن أن تكون جزءاً منها: بين ممارسة الفنّ التجريدي المعرّضة للدوران في الفراغ، نتيجة العجز عن استيعاب عناصر الواقع التي قد تهمّ الفنان، وأعادة دقيقة وأكاديميّة لبناء هذا الواقع، كان هناك كل التنويعات التي يمكن تخيّلها: معالجة الحيّز تباعاً، المعالجة التصويريّة، العمل على حامل الصورة.

ما كان يبني الصورة ويضمّنها في اللوحة، كان عائداً إلى إرث سيزان Cézanne، وأكثر منه إلى تقنيّة الورق الملصق وإلى ﺷﭭﻴﺘﺮز Schwitters. كان الأمر يتعلّق بتجميع عناصر  متباينة في بناء جديد يسمح بتوحيد كلّ هذه المكوّنات وتوليفها.

يتقاطع الروّاس مع لغة مضمرة حيث الفعل الترسيمي يبني اللوحة فيما هو يتحقّق مادّيّاً: فركاً وحكّاً ونقلاً ولصقاً. هناك انتقال من تقنيّة إلى أخرى بما ليس تغييراً في الدلالة بقدر كونه تنويعاّ على بناء الصورة. لا علاقة للصورة التي ينتجها الرسّام بحِرْفة من مستوى أعلى بحيث تأتي الثقافة كمزيد يضاف إليها، بكلّ تنويعات المعنى التي تستتبعها فكرة فنّ شرقي يبحث عن تعبيره في إطار الحداثة الأوروﭘﻴّﺔ.

هذه الرؤية لمرجع أعلى، لم يكن لها أيّ دور على الإطلاق في نظره، ليس بسبب المقاربة الأنكلوساكسونيّة التي كان يعتمدها دائماً ويتغذّى منها وحسب، بل كذلك بالنظر إلى واقع الخلفيّة الثقافيّة الخاصّة بالصناعة الحِرَفيّة، حيث لا يُنظَر إلى الفنّ إلّا كحذق مكتسَب. لا دور في ذلك لعِلم الجَمال ولإعمال الأداة الذهنيّة. لم يكن هناك في نظر الروّاس سوى نضارة الصورة وإبداء البراعة، الذي قد يكون أحياناً على شيء من الافتعال.

انتسب الروّاس سنة 1979 إلى مدرسة سلاد Slade school اللندنيّة التي بقي فيها حتّى سنة 1981. واصل التعمّق في ما كان يشغله من مسائل، والشغل على النقش الضوئي. كان يبدو له أنّه قام بخيار مهمّ، لكن كذلك أنّه اكتشف الطريق التي قد تقوده إلى تجميع العناصر المبعثرة تِبعاً لفكّ رموزها الشكليّة واللغويّة، المحفَّز بالمعالجة على طريقة اﻟﭙﻮپ آرت في الستّينيّات، بمواضيع مختلفة تماماً، دون جموح ثقافة طال تبعثرها. كان الطموح أوسع من ذلك: إلى تأسيس واقع تشكيلي، كلغة وكعالَم معاً. كيف السبيل إلى تكوين هذه العناصر في لغة مع الحفاظ على انسجامها؟

لم يكن سطح الصفيحة الحسّاسة للضوء يستتبع الانسجام الشكلي بالضرورة إذا كان لصق العناصر الأخرى لن يأتي بعدذاك إلّا من قابليّة تعبير تقنيّة، من خرق للانسجام. لذا راح يفسح في المجال تدريجيّاً للتأليف.

إنّنا بعيدون، هنا، عن جاذبيّة التجريد كمطالبة بالحرّيّة. كان قد اكتشف أنّ حرّيّة اللطخة التصويريّة والريشة كانت تبدو كغير كافية، وبصريح العبارة، كخدعة في أعادة إدخال الصورة بالنزعة الأكاديميّة وباﻟﭙﻮپ آرت إلى حيث لم تكن قد اختفت أبداً. إذ كان الوقت الوحيد الخاصّ بالتجريد هو وقت فنّ المفهوم – على الّا نعني به فنّ المفهوميّ.

كان الخداع البصري بالعمق الذي تحقّقه المعالجة التقنيّة، وما يسبّبه من قلق، ومن هستيريا، يوازن عند الروّاس ليس فراغ الصورة، بل وقت تأرجح جماليّتها. بالرغبة في السيطرة على الحيّز وفي ملئه بما يراد قوله لا في النوايا بل في التعبير، كانت الصورة تندمج في مقصد للتشكيل وللتحليل النفسي (الصورة البدئيّة، الوسواس)، كعنصر مستمَدّ من خزّان الصُوَر الكبير الذي يكوِّنه العالَم، عبر الصحافة، والتصوير الفوتوغرافي، والإعلان.

لم يعد مطلوباً من فنّ الرسم أن يخلق الصورة مع زوال الحدود بين التصويري والتجريدي وكامل لائحة التصنيفات، إنّما بات عليه معاملة الصورة كما يعامل المسائل الأخرى التي يواجهها في وقت واحد: بناء، حيِّز، علاقة تخطيط، تعبير، لصق، تشويش – كلّ هذه الكلمات التجريديّة أو العائدة إلى موقع نقدي في تاريخ الفنّ. وقد ساعدت دِقّة الشغل الروّاس في بداية الحرب، في 1975 ـ 1976، على الهرب من الدُوار وعلى استبعاده وتمريره في شيء آخر. كانت بديلاً من القلق، وانحرافاً مضبوطاً تحت إشراف معالم اللوحة.

فرّوخ، وأنسي، والباشا، والروّاس، اقتربوا من قراءة للصورة بالطريقة نفسها. كان فرّوخ يقرأ النقش الملوّن التركي، مَعين الصور المحلّي، حيث كان التصوير الفوتوغرافي لا يزال خارج اللعبة، إلّا كمنافسة مباشرة. كانت عثمنة أسلوب التزيين والحياة في بيروت أواخر القرن التاسع عشر هي المرجعيّة المعتمدة. وكانت الصورة متحدّرة من هذا النَسَب. أهدى فرّوخ جمال ﭘﺎشا، خلال مأدبة عشاء في فندق غاسمان في باب ادريس، اﻟﭙﻮرتريه الذي رسمه له، واستحصل الأخير له على منحة دراسيّة في أستانبول. وكتميم دمشقيّة قبله، تَبِعَ تقاليد ضبّاط بحريّة الباب العالي في تعلّم الرسم في المدرسة البحريّة.

كان على المسيحيّين في ولاية بيروت، أمثال سرور و قرم، أن يطرحوا مسألة التصوير التمثيلي، مثلما كانت تقاليد التصوير الفوتوغرافي تعود إلى أرمن الأمبراطوريّة، في القدس وفي بيروت،وحتّى إلى مصوِّرين أرمن مقيمين في إستانبول وكان قسم منهم قد تلقّى التدريب في ألمانيا والقسم الآخر في شبكة المؤسّسات الدينيّة الأرمنيّة.

هل أنّ محاكاة النموذج فرضت نفسها كصدى تقني للتصوير الفوتوغرافي فقط؟ على أيّ حال، كنّا قبلذاك بعيدين عن التساؤل حول الصورة وصلاحها وتبريرها اللاهوتي. من المدهش اكتشاف أنّنا كي نتجاوز المسألة البسيطة المتعلّقة بكتابة تاريخ حِرْفة الاستنساخ، غابت عنّا العلاقة الماورائيّة واللاهوتيّة مع الصورة. والحال، مثلما كان جياكومتّي Giacometti قد أدرك الأمر، كانت المسألة الأساسيّة لاهوتيّة، باعتبار الفنّان في الواقع منافساً للخالق.

كانت الوظيفة الروحيّة عند الروّاس هزيلة، وأراد أن يضع نفسه في الجانب الروحيّ من الفنّ. تَصرَّفَ تِبْعاً لما أحبّ، ووَقَع في الازدواجيّة على نحوٍ يريحه بقدر ما يتيح له اللعب على كافّة الامتدادات الممكنة: الكتابة في الرسم أو الرسم في خدمة الكتابة. لكنّه ظلّ ما دون قراءة الجمهور. كان عالَمه الداخلي حطاماً، لأنّ الخطاب الاجتماعي، الذي كان يربطه بعضاً إلى بعضه، كان لا يكفّ عن أنكاره.

أمّا في ما عدا ذلك، هل كان الأمر يستحقّ عناء هذه الالتفافة، مَنْتَجة الصورة، تَوسُّلها من أجْل مَنْتَجة الانفعال، على غرار عجين يأخذ على الخميرة ويطلع، مثل رابط اللوحة التي، شيئاً فشيئاً، يجري الانفكاك عنها؟

لم يكن الانفعال والتأثّر لديه، بتجمّدهما الظاهر، أمراً إراديّاً بالضرورة، بل كانا بالأحرى نتيجة وضعه الصورةَ على مسافة منه. إنّه يتعرَّف المسألة ويشعر بها كما لو أنّها خارجه. يريد نفسه، باختلافه عمّا يريد أن يكونه كفرد وبجذريّته، خارج تاريخ الفنّ اللبناني. ومع ذلك تظلّ الصورة بكماء. كان يرسم كيلا يتكلّم.

الرسم لديه وسيلة للتوصًل، بالعديد من المحاولات والتغييرات، إلى صُوَر يضعها في مكانها ويُقِرُّها اجتماعيّاً. أمثولة أخلاقيّة للصالونات وللمجتمع، من نوع حكاية «صعود رايك وسقوطه» Rake’s Progress مطبّقةً على فنّ الرسم.

صُوَره هذه، المتكوّنة بالمصادفة أكثر من المظاهر أو من النماذج الدالّة، لا مُعادِل لها مصادفيّاً إلّا الجماليّة التي تعرضها تلك الصُوَر كتصوير تمثيلي يقدِّمه الرسّام تفسيراً للعالَم.

حتّى أن الأمر قد يبدو كأنّ العالَم يكشف أوراقه، لكن هذا يقتضي أن تفصح اللعبة، ولو لمرّة واحدة، أقلّه عن شيء ما واضح وغير منتظر وسط هذا الاختلاط حيث يتوجّب على الرسّام أن يكون أكثر من رابط تزييني.

مسألة الجزء المكوِّن أساسيّة لدى الروّاس. فعالَمه يتكوّن من أجزاء يحاول عبثاً الربط فيما بينها. وينقصه الرابط. باعتبار أن المسألة الأخرى تتعلّق بالتخلّي عن الأجزاء  لكونها لا تنجح في إعادة تكوين لا العواطف، ولا الانفعالات، ولا الأماكن، ولا الأجسام. تحضر أعماله كلّها على شاكلة ذكرى مديدة تمرّ على البطيء ولا تتوقّف. ترتبط الأجسام الساكنة بأجزاء من أشياء، ومن أماكن، ومن تفاصيل، بهَمٍّ تصنيفي ومعماري. وإذ توضع على اللوحة دون معالِم استدلاليّة، تظلّ عاجزة عن الاندماج في حيّزٍ تمثيلي، عدا الصفحة ذات البُعدَين.

إنّها تصنيفيّة حَرْفيّة وهامشيّة، في مواجهة صُوَر عالَم تزيحه دون أن تتمكّن من مَسّ أحاسيس الرائي، حتّى عبر دغدغته بأشكال من الشهوانيّة أو من البراعة التقنيّة.

وتفشل البراعة التقنيّة في حلحلة الصورة، كما في توحيدها. فمرجعيّتها الأساسيّة ليست في فنّ اللصق (collage)، كما عرفه تاريخ الفنّ المعاصر، إنّما حرفيّاً في الحضور القلِق للجزء الخالي من الدلالة، في عِلم آثار عالَمٍ لا نموذج له.

ثمّ هناك عدم فهم لكلّ ما سيكون الشكل الآتي، عُطل يشلّ حَثَّ العالَم على الاصلاح، لكن يحثّه على التبعثر حائلاً دون أن تستعيد ولو صورة واحدة معناها أو وحدتها. حالة تَوحُّد تصيب الصورة التي أدّى فوات وقت صلاحيّتها إلى إغلاق كلّ أبوابها ومخارجها، وهذا التكوين التشكيلي الذي لا تجمعه الجماليّة ولا تُوَحِّده، يظلّ عالقاً بين الشفاه، كلمات للصورة الموحية تنتظر ان تُقال.

إنّه عالَم لا إيحاء فيه ولا يظهر تَشوّشُه إلّا صارخاً أكثر فأكثر نظراً إلى هجرة المعنى. كما أنّه يظهر كذلك كتصوير لهذا التشوّش. رقصة جانبيّة أو اضطراب حزن اللاعب الجالس إلى طاولته أمام لعبة لم يعد يهمّه أيّاً تكون، وقد نسي، أو أنّه لم يعرف أبداً قواعد انطلاقها.

 هذا الاستخدام للجزء، كجزء من صُوَر العالَم، ومن التفاصيل التصويريّة، يصل في نهاية المطاف إلى استنتاج شديد الوضوح: التفكيك لم يُعِد تشكيل وحدة أو تفسير.

يحاول  البشر جميعاً، في كافّة المجتمعات، إثبات ضرورة المصادفة التي أسّستهم.

لا يتوقّف أنسي عن مداعبة الموضوع، مداعبة الأشياء بكثير من الرِقّة، لكنّه لا يبالغ أبداً ويترك للمشاكلات مهمّة زيادة حِدّة مفترَضة سَلَفاً أو إثباتها، حتّى لو أنّها لا تصدر عنه. وفرّوخ يبالغ في إبراز التشابه لأنّ التشابه فـخّ بالنسبة إليه، وهو الأكثر تَعرُّضاً لارتكاب الأخطاء إزاء التصوير التمثيلي. وإذ يتملّكه الرعب والخوف يقف منشدهاً أمام كلّ خطوة يخطوها في تشكيل اللوحة.

أمّا الروّاس فيسترخي ويرخي العنان لكلّ حميميّة علاقته مع تاريخ الفنّ ومع صُوَر العالَم. ونميل إلى ترجيح أنّ الصورة بالنسبة إليه تشكيل ذهنيّ في المقام الأوّل، لكنّه تشكيل يتعلّق بالطابع الشخصيّ إلى درجة تجعل الحدّ الأدنى من الانفصال الاجتماعي يحول دون تبيان سِرِّه.

غياب الانفعال، وأكثر منه غياب الشِعر، ولو بفعل هزيمة ما مُسَلَّم بها سَلفاً.

من المعروف أنّ للصُوَر طبيعة شبقيّة. وهذه العلاقة الحميميّة تُظَهَّر إلى العلن دون تَحمُّل عاقبة الانكشاف، ودون حِسٍّ نقديّ إزاء عالَم الصورة. كان قد تراءى لي أنّ المشكلة الرئيسة لدى الروّاس تكمن في حِرَفيّته، في رغبته بالانتقال من قراءة اجتماعيّة للحِرَفيّة إلى صورة الفنان والخالق، في حين أنّ الأمر لا ينطوي، عمليّاً إلّا علاقة المراهقة بالجنس.

إنّ حدّ موضوع الفنّ يقع خارج الفنّ، مثلما أنّ علاقة الصورة هي علاقة التعامل مع الرغبة ومع شبه ـ الرغبة حيث صورة الجسد تغذّي تَوهُّم العلاقة.

إنّ موضوع أعماله في هذا الاطار هو كذلك موضوع تَوهُّم هذه العلاقة. فالرسم يحمل هذا الموضوع دونما تفكير، فيكون، بالمعنى الحَرْفيّ، ما يوجد وراء المرآة: اختلاف المكانة والطبقة الاجتماعيّة في العلاقة مع اللوحة. مداعبة هذه الأجسام بالتصوير والتلوين تتعثّر أمام حلم أمريكي مُحوَّل عن وِجهته ويظنّ أنّه واجد منطقاً للذوق أي للذوق السليم.

إسباغ الطابع الاجتماعي على العمل الفنّي يظلّ الوسيلة الوحيدة لتَقبُّل مكانة للفنّان في المجتمع. وقسط التصنّع في ذلك يتحمّله في المقام الأوّل الكاريكاتور الاجتماعي. إنّه نفسه رافع صوت العوامل الثلاثة المتضافرة: فَهْم المجتمع اللبناني الذي يسعى الفنّان إلى الاندماج فيه، وما ينتجه الفنّان عملياً، وطريقة هذا المجتمع المفترضة في تقبّل فنّه. إذا كان الفنّ ملاذاً، فلا شيء واقعيّاً يجاوب الواقع.

الواقع  مُغلَّف بثياب مبلّلة، والعظام تتجلّد. الهزيمة نفسها صارت وراء الظَهر وتبدو كالغنيمة الأكثر بداهة.

الهزيمة هنا ليست نقيض النصر، بل اليقين النهائي لمكان مُفَكَّك، حيث الروابط بين المبنى، والشقّة، والأثاث، والجدران، والحياة اليوميّة ومشهدها، كلّ هذا لم يَعُد موجودا، ولا حتّى الإرادة ببقاء ذلك قائماً.

السيجارة التي تترمّد في المنفضة تبدو عائدة إلى مكان آخر، إلى مناخ آخر. أوراق اللعب الدبقة لا تنجح في التفلّت لتُخلط مجدّداً. ما الذي يحدث؟ للدقّة، لا شيء يحدث. وهذا اللاشيء هو ما يسبِّب الدوار. حياة مُفقَرة، غير مسكونة، مصطنعة، ومُقحَمة، بين الديكور ووهم الديكور، الظلّ الشبحيّ، وهذه الطريقة في عدم الدخول في الديكور، والسكن فيه. والأمر أسوأ من ذلك لأن الشعور كذلك خرج من الديكور ومن الحقل. مواء الغرابة فاضح إلى حدّ عجزه حتّى عن العمل بالروتين.

الروّاس واقع في الفخّ الذي يصبح القاعدة الكبرى في اللعبة لديه، لكنّه لا يعرف ما الذي يجب تفخيخه. إنّه قبل كلّ شيء ضحيّة لمجموع قواعد التوريث والممارسة التي تحكم التدرّب والتعبير.

هذا الانحباس في القاعدة خصوصاً هو ما خنق ببطء كلّ صورة ممكنة. مجمل فنّ الروّاس لايتعلّق إلّا بفوات مدّة صلاحة الاستعمال المتجمّدة هذه. شبه ـ الانفعال وإخراج المشهد، التنفيذ والتشابه الساخر، كلّ هذا يتوصّل إلى تجميد كلّ شيء على حافّة الصورة في المشهد البصري ولا شيء ينجح  في إذابة الجليد.

يلي ذلك فكرة تَعدّد النسخ والطباعة، مثل فكرة المهارة التي لا نفع منها: الإغراء موضوعاً في خدمة  النسخ الميكانيكي. وفيما أكتب ذلك يتبيَّن لي فجأة أنّ التعطيل يتأتّى، تحديداً، من الطريق المسدود في هذه الاستعارة المجازيّة.

 جزء متجمّد من ورق مصقول، هوذا خصوصاً هذا الانتقاء من أجل الكولّاج  الذي يبدو الأقلّ وقوعاً تحت السيطرة، بتكاثر بلا داعٍ ولا رابط. نشعر أنّنا هنا أمام نقيض فرد، بالأشكال التي يستحيل تمييزها بطريق الرغبة أو الانفعال.

حتّى صُوَر العاريات المقتطعة من مجلّات الاغراء الإنكليزيّة أو الأمريكيّة، أو من مؤلّفات حول تاريخ فنّ الرسم الاستشراقي، لا تؤدّي إلّا وَقْعَ نوعيّتها المخنوق، أو العيوب الطباعيّة.

هنا تكمن نقطة الضعف، إذ ما النفع من رسم يفتقد الرغبة؟

إخلال بالدور في كلّ شيء، إذ إن الفنّ بلا رغبة ليس إلّا ذلك الذي تغيب فيه رغبة الرسّام. الأشكال التي تُختزَل بتنفيذها تنتهي بالانتقام وتُعدِم الرسّام بنفسها. يجب ألّا ننسى كذلك أن انسداد الطريق أمام التصوير المصاحب للنصّ، دون القدرة على الوصول إلى الصُوَر المناسبة، أو إلى الصورة، أي إلى التأليف الذهني، يوقعه من تلقاء نفسه في سلّة نفايات الرؤية والذاكرة.

وقد طوّرت فكرة الصناعة، من ناحية أخرى، عالَماً ذهنيّاً من البراءة والدهاء يَظهَر كأفق وحيد للممكن وللواقعي معاً. براءة البراءة هذه تَظهَر كتبرير لاصطناع العالَم الخيالي الذي يزداد وزنه خصوصاً مع انبنائه بهذا البطء واندماجه في الحياة اليوميّة.

وينتهي اليومي كذلك بالذهاب نحو العمل بالالتزام والكدح أكثر منه نحو العمل الذهني والبناء الخيالي.

إنّه عِلم آثار جليدي حيث الرغبة المخرَّبة تتوقّف عن العمل إلّا كمحاكاة تشخيصيّة ولا  تعود تجرف في جريانها إلّا قِطعاً من الدمج في المجتمع حيث عبثاً تصدر بعض الإشارات الوامضة دون أن يعرف أحد لماذا.

 وأخيراً، إلى مَن يتوجّه؟ في محاولة لدفع القراءة الممكنة  إلى أبعد ما يمكن. إنّه يتوجّه إلى مجتمع من هواة الموسيقى ومن صيّادي السمك بالصنّارة. والمفترَض في ذلك أن يكون لطيفاً، والحال، إن صدى هذا المجتمع يجعله أقلّ فأقلّ لطفاً.

يلعب لعبة أن يكونه بالفهم الوحيد التصويري للتمثيل، التحرُّف البصري وحده الخاصّ بفنّ اللصق منظوراً إليه كإضافة إيحائية للتلميحي. كلّ هذا ما كان ليكون مزعجاً لو لم يثقل عليه واقع لا يقلّ عنه ثقلاً ولم يعد يعبّر عن عدم رضاهإزاء كلّ الباقي. قد يكون في الأمر طفوليّة على طريقة ﭘﻴﺘﺮ بلايك Peter Blake  تتراجع عندما يضنّ ﭘﻴﺘﺮ بلايك بمفاتيح أسراره ولا تعود العلاقة مع الصورة تُبَيِّن شيئاً عدا عدم اكتمال مكوِّناتها.

إنّها سيرة ذاتيّة بصريّة مفرغة من كلّ عنصر يمتّ بصِلة إلى السيرة الذاتيّة، وتوضع في مكانها على نحوٍ مغرق في التصنّع، بينما البصري لا يرى الأناقة في أكثر الأحيان إلّا في سهولة الاغراء دونما مسافة  فاصلة. فاللعب والفكاهة ليسا هنا المصاحَبة الضدّ للجدّيّة التي تحاول ربط الفهم الأوّلي لسبب بسيط هو عدم وجود  الجماعة والتقاسم.

يزاول الروّاس فنّ الرسم لنفسه،  متوارياً في زاويته الخاصّة.

من المؤكّد أنّ كل فنّ، مهما أمكن أن يقال فيه، هو تأمّل حول الذات، لكنّ ما يسهب فيه، أو يحاول تبيانه، ينبغي أن يقود إلى تأمّل ينفتح في جزء يسير منه على العالَم، أو، أقلّه، على الفنّ.

ليس في الأمر تحريف من المنطلق لاستنتاج نهائيّ كي نُقنع أنفسنا بأنّه صادر عن شيء آخر غير تَحَرُّف يفرض علينا الاختلاف في الاستنتاجات في حين أن كلّ تحرّف حقيقي يتيح لنا إعادة تكوينه.

bottom of page