
خليل زغيب، عيد الصليب، دون تاريخ

خليل زغيب، حديقة، دون تاريخ

خليل زغيب، تظاهرة في بيروت، 1963

خليل زغيب، عيد الصليب، دون تاريخ
زغيب، خليل
ضبيّة (لبنان)، 1911 – سنّ الفيل (لبنان)، 1975
شرع خليل زغيب يرسم بحافز من حِدَّة تصحيحيّة، هي نفسها التي جعلته ذات يوم يقترب من لوحة ﻟﭙﻴﻜﺎسو Picasso من مرحلة الثلاثينيّات، معلّقة في معهد عِلم الآثار الفرنسي، ويأخذ بتصحيحها، بقلم في يده، كفرضٍ واجبٍ عليه. وكم عانى هنري سايريغ Henri Seyrig في محاولة صرفه عن ذلك.
إذا كان خليل زغيب لم يثابر على ما كان يمكن افتراضه فيه انطلاقاً من هذه الواقعة، مطبَّقاً على تاريخ الفنّ عامّة، فهو، أقلّه، لعب دوراً مهمّاً في تاريخ الفنّ في لبنان، بعلاقته مع فنّ الرسم وبنظرة المجتمع اللبناني إليه.
تمّ إقناع زغيب بأن يصنّف نفسه في الفنّ الساذج، وفق التراتب المتَّبع، من أجل وقف السجالات العبثيّة التي كان يثيرها والتي لم تكن إلّا مرحلة التدرّب الضروري على ولادته كرسّام. كان قد أدرك فحوى الأمر تماماً إذ أتمّ إيجاد مكان له في المقارنة والتصنيف. وقد استطاع، على السواء، أن يُحسن التخلّص من كلّ ذلك وأن يكتفي بكونه ما أراد مكتشفوه له أن يكون. لكن ما كانه في نهاية الأمر إنّما يتعلّق بمسائل مهمّة، غالباً ما تُطرح خلف حجاب من حالات سوء التفاهم.
كان اكتشاف سايريغ لخليل زغيب، سنة 1954، وأخذه إلى دروس مارييت شارلتون Maryette Charlton في الجامعة الأمريكيّة في بيروت. كانت تشارلتون يومها تدير قسم الفنّ الذي تأسّس في الجامعة سنة 1952، وهي من متخرّجي معهد الفنّ Art Institute في شيكاغو الذي جاء معظم أساتذته من مدرسة الباوهاوس Bauhaus الألمانيّة. وهي بالتالي لم تكن تهتمّ إطلاقاً بإرساء نهج كلاسّيكي في تعليم الفنّ.
كانت تراهن على قدر من العفويّة، والبحث عن لون محلّي، واليقين بأنّ موهبة الفنّان كامنة لدى كلّ إنسان ويكفيه أن ينكبّ على الرسم دونما قاعدة مسبّقة. كان موقفها هذا بمثابة اعتراض غوغائي في هذا المناخ اﻟﭙﺮوتستانتي الصارم؛ كانت الإدارة ستلجأ بالتأكيد إلى تعليق الدروس لو أنّها عَلِمت أنّ طلّاباً يتعرّون كموديلات ليرسمهم زملاؤهم.
كان هنري سايريغ، الذي شغل منصب مستشار ثقافي للسفارة الفرنسيّة في واشنطن أثناء الحرب العالميّة الثانية، مهتمّاً بتجربة مارييت تشارلتون. وربّما لم يكن يرى في تجربة الأكاديميّة اللبنانيّة للفنون الجميلة ALBA إلّا استنساخاً مضنياً لباريس. كانت الصعوبة متمثِّلة، ولا تزال، في فهم الوجوه التاريخيّة للحداثة، إن لم يكن من أجل جلب الجديد، فأقلّه من أجل البحث في دروب لا تتعلّق بمجرَّد الاستنساخ. والحال، أنّ هذه الحرّيّة الأنكلوساكسونيّة الساذجة بعض الشيء لدى تشارلتون كانت تبدو ذات حظّ في النجاح، خصوصاً وأنّها لم تكن تأخذ في الحسبان أبداً الطبقات الاجتماعيّة وتأثيرها. كانت، عمليّاً، تنزع عن تعليم الفنّ طابعه الاجتماعي بمراهنتها على مجرّد الفرديّات والعلاقة الشخصيّة فيما بينها، باعتبار أنّ ذلك يؤدّي إلى الإفساح في المجال لظهور الجديد. لكن لأيّة علاقة جديدة ومن أيّة طبيعة؟ بالإقلاع عن تكرار طرائق التعليم كانت تُفتح الابواب للجميع، وكان الاهتمام نفسه يُولى للجميع، حتّى للساقي في الحانة الذي تتركّز موهبته في يديه إذ يكتشف في نفسه ميلاً إلى الرسم. ولعلّ دوراً كان يُناط بالوجود المرِح للموديل العاري في مدينة لم يسبق أن عرفت شيئاً من كلّ ذلك. أصبح زغيب محطّ حديث الوسط الأنكلوفوني الضيّق الذي كان ذا منحى لايهتمّ إلّا باللون المحلّي الطريف.
هل أسفر هذا الاختلاط الاجتماعي عن شيء ما؟ لقد بلغ حدوده: فالطلّاب لم يتجاوزوا، في تملّك لغة الفنّ، طور اللعثمة، إمّا لكونهم دون السنّ، وإمّا لفرط حرصهم على الاستنساخ والتشابه، مغرَّبين عن الثقافة، منقطعين عن تاريخ الفنّ من المنطلَق، اعتقاداً منهم بأنّهم بتَخَلُّصهم من هذا العبء قد يأتون بجديد. هذا على اعتبار أنّ الجديد في الفنّ الرسم يتحقّق عبر الإسراف أكثر منه عبر الانتقاص.
تَمثَّلَ النجاح الوحيد الذي حقّقته تجربة مارييت تشارلتون، في المحصّلة، في كونها أبدت ترحيباً بزغيب، وشجّعته على أن يرسم ولم تحشره في زاوية التصوير التمثيلي الفولكلوري الذي يتبدّى، مع مرور الوقت، كقراءة وحيدة ممكنة لهويّة ولفنّ لبنانيَّين. أمّا كارسوِل Carswell الذي جرى تعيينه سنة 1956 رئيساً لقسم الفنّ في الجامعة الأمريكيّة، فقد واصل الحفاظ على الحنين إلى تعبير أصيل، إلى بحث، وجرّب هو نفسه تعبيراً شخصيّاً زاده الفنّ الحديث توتّراً، قبل أن ينتهي إلى مفارقة تقوده إلى عِلم الآثار حيث كانت بداياته في الرسم. كان يتذوّق الفنون الشعبيّة، وكتب الأطفال، ودفاتر تعليم تجويد الخطّ، وملصقات أفلام السينما، وأغطية علب السكاكر – دون الطابع الإيحائي بأسلوب الشاعر رامبو Rimbaud – مع تَعلّق كل ذلك بالإبراء الإرادي من البلاهة عبر بَلَهٍ مُتَبَنّىً باعتباره نظرة جديدة.
حمل زغيب إلى هذا التجديد رؤية الحياة في بيروت وتجربتها. ولعلّ بعضهم تساءل: أيّة قيمة فنّيّة كان يمكن أن تكون لحياة مُزيِّن شَعر؟ رُبَّ حياة مزيّن شَعر كانت تحمل ما ـ وراء المرآة لرجل تقتضي مهنته العمل – تحديداً – أمام المرآة.
حمل زغيب شيئاً يقع ما ـ وراء مجرّد شاعريّة الكلمات. فقد كان الاستثناء غير المأمول الذي يثبت القاعدة بمحاولة خرقها؛ وفيما نحن بصدده، كان يحمل من الرداءة أقلّ ممّا يحمله منها إطار التنشئة الفرانكوفونيّة وتكرارها بنى التعليم القائمة. كان يحمل معه تجربته الشخصيّة، تجربة خبرته المدينيّة، وتخطيطاً لعالَم داخلي، مخزون شعبي مشترَك، – يتقاسمه الجميع –، ولم يكن ذلك ليحول دون وقوعه أحياناً في حداءٍ تافه، لكنّه، من حيث الجوهر، كان حاملاً لتعبير، لمساءلة مهمّة وجديدة للواقع وللذات.
في هذا البلد حيث تعليم الرسم واندراجه التاريخي بالنسبة إلى مصادره الباريسيّة يحولان دون رؤية الواقع إلّا في شكل مَشاهد، في شكل مَناظر ترتفع أمامه حاجبة الرؤية، كان زغيب أوّل من رسم عالَماً تخايليا، وأوّل من استثمر إمكانيّة عرض شيء لا يتعلّق بجردة بصريّة بسيطة، بل بجردة عالَم داخلي يعاد تأليفه بعد استمداد عناصره من الواقع.
لذا، في أفضل الأحوال، يتحدّث زغيب عن نفسه ويعبّر عن رؤية محلّيّة وشخصيّة لا تَدين بشيء لتعليم ما، أيّاً يكن. ليس لكونه لم يتلقَّ تعليماً، بل لأنّه يستهدف شيئاً آخر تتوفّر له وسائله التقنيّة: مشهد شارع بيروتي، أو الجغرافيا الداخليّة ونوع من صورة ذهنيّة مكثّفة.
هل يكون مجرّد نتاج اجتماعي لتعليم أمريكي ساذج وحماسي، ليس إلّا؟
التعبير هنا تبسيطي. وهذا حتّى لو أنّه كان يطرح تلك الأسئلة التي طرحها قبله فرّوخ، وأنسي، والجميّل: كيف السبيل إلى رسم واقع مُدرَك كمحلّي، مُعبِّر، وينبغي أن يتعرّف زبائنُه أنفسَهم فيه، وأن يجدوا في ما يمثّله التبريرَ لوجودهم الخاصّ. لا شكّ في أنّه، أحياناً، قد رسمَ لبناناً حَرِيّاً ببطاقات بريديّة، النسخة المطابقة لما كان يظنّ أن الناس سيفهمونه. لكن بينما كان فرّوخ وأنسي والجميّل يرسمون من أجل هذا التعرّف في إطار المعطيات التقنيّة الممكنة، دون إقحام تجربتهم الشخصيّة على نحوٍ واضح، توصّل زغيب إلى التكلّم، إلى التعبير عن فرادة تجربة مدينيّة. فمعه، نشاهد ظهور فردٍ يتكلّم، وهو لا يكتفي بإيصال خطاب تقني لأشكال تصويريّة، وأساليب. كان في بيروت أواخر الخمسينيّات وفي الستّينيّات لا يزال يتموضع في النضارة نفسها ويطرح الاسئلة التي طرحها خليفة، وملمير، وعوّاد.
تجربته في ساحة الشهداء وفي الأزقّة المجاورة لم تكن من الفولكلور. فمن يجعل منه ذلك «الساذج الوطني» إنّما يلغي القراءة الداخلية والأصيلة المعبَّر عنها بالصورة. قلائل هم الذين تطرّقوا إلى تلك المواضيع، ليس لأن ذلك كان يقتضي العيش هناك، بل لافتقاد التجربة الشخصيّة في إدراك الواقع. أمّا زغيب، فيفتح عينيه ويرسم ما يحيط به دون أن يهتم بكون الموضوع أكاديميّاً: أي بالنظرة إلى الطبيعة الميتة أو المنظر الطبيعي كتطبيق لنظريّة اللوحة. هذا يعني أنّه قد طرح مسألة شخصيّة الفنّان الانسانيّة، وشاعريّته، ونظرته إلى العالَم. كان هناك، في بداية الستّينيّات، فنّانون آخرون يقدِّمون رسوماً لبيروت لم تكن تأويلاً شاعريّاً أو تشكيليّاً للمدينة، بل توثيقيّاً. هذا لم يَدُم طويلاّ، لأنّ المدينة كانت تصبح أكثر فأكثر تشابكاً في إدراكها حسّيّاً ولا تعود تتيح رؤية جزئيّة تكون أحياناً موحية بكلّ ما تبقى.
عرض زغيب في بيروت سنة 1955 في مبنى وِست هول التابع للجامعة الأميركيّة، وسنة 1961 في صالة أليكّو صعب، وسنة 1965 في صالة غاليري ون، وسنة 1971 في جريدة لوريان l’Orient. شارك في المعرض السنوي لمتحف سرسق في بيروت من1961 إلى 1974، وفي بينالي الاسكندريّة من 1957 إلى 1970.
إذ كان زغيب يقصد يوميّاً مقهى الجمهوريّة في ساحة الشهداء، كان شعوره أنّ الجمهوريّة كانت تستقبله في المقهى.
كان يتولّد انطباع بأنّ وراء المربّعات الصغيرة لواجهة المقهى الزجاجيّة ورفّ الكؤوس الأحمر، كانت الجمهوريّة بكاملها مقيمة في الواجهة وبالطبع خارج المقهى الذي كان زبائنه الدائمون يصبحون، دفعة واحدة، النظّارة الذين اعتراهم بعض الملل، كقيّمين على المكان ومستبعدين عنه.
يُمثِّل المقهى مع ذلك كلّ التصاوير الممكنة لما كان زغيب يريد تمثيله.
الفولكلور الذهني لبلد مختـزَل إلى ذهنيّته الفولكلوريّة، سوء الفهم والعواقب الخرقاء التي لن تلبث أن تتحوّل سريعاً إلى جنون إجرامي.
كانت المقاهي في بيروت الأماكن الوحيدة حيث يمكن إضاعة الوقت كقصدٍ مُعلَن، مثل سينما فيلم بلا ممثِّلين. أمّا زغيب فكان يقصد المقهى ليسجِّل إلفِه الاجتماعي المحتفظ بحسّه النقدي بين جميع اللبنانيّين العابرين. يقوم بالتقاط آخِر فُتات الوليمة والقَدَر مجتمِعَين. وبعُصابه المعتاد، الخليط من إشفاقه على نفسه والسخرية، مع احتفاء الصحافة به بمناسبة بعض معارض الستّينيّات، كان زغيب قد بدأ يغيب طيّ النسيان، ومع أنّ مبيع لوحاته راح يتقلّص، فقد احتفظ، أقلّه، بعدد محدود من الزبائن جامعي اللوحات المندهشين أمام انكشاف سرّ الطقوسيّة التي يمارسها.
كان يرسم، بكلّ مظاهر السذاجة، توليفاً من التمثيلات المتفارقة الخاصّة باللغة وبالرموز.
هذا الرسم، هو الفنّ الأكثر حصافة لجهة استخدام مستويات عدّة. فيه استعراض للتمثيلات كافّة، حتّى قراءة الصحف المحلّيّة وتصاويرها.
يرسم زغيب الفروق اللغويّة والشكليّة الخاصّة بتمثيل الواقع. وليس من العبث، بالنسبة إليه كمشاكس، أنّه كان مزيّن شَعر، فهو المدقِّق في التَفْلِيَة. ليس زغيب أوّل لبناني في الرسم الساذج، لكنّه الأوّل في تبيان مدى سذاجة الفنّ اللبناني في استخدام التصوير التمثيلي استخداماً ظاهراً ونَقّاداً. إنّه يَحرِف هذا التصوير لخدمة تعبير مُغرِق في السذاجة، يريد به أن يُدخل في روعنا أنّ هذا حداثة.
نحن مجبَرون على أن نعاصر أنفسنا. على أن نتساءل بالتالي عن معالم الاستدلال الخاصّة بالفنّ اللبناني والخيارات المتاحة أمامه في تاريخه وفي عصريّته. يحتلّ زغيب مكانه في انحيازه المعلَن إلى الحداثة، نظراً إلى كونه مستبعداً، عبر هذا التفارق، عن الصُوَر المعهودة اجتماعيّاً المستقطَبة في مواجهة المتخيَّلات السابقة، المشترَكة بين مكوِّنات المشهد اللبناني.
هكذا يكون قد حاول استكشاف كلّ إمكانيّات التصوير خارج التصنيف وَفْق الموضوع، إنّما المندرجة في التصوير التمثيلي. كذلك يكون، تكراراً في كلّ محاولة، قد اصطدم باستحالة تجاوز ظاهر الأشياء، مجاهراً بذلك بوضوح كافٍ بحيث يصبح هذا التجاوُر المرغوب موضوعَ رسومه تخصيصاً.
ليس ما يستكشفه حدّاً أقصى للصورة عموماً بل مجاورتها وما ينقصها كي تصبح صورة محدّدة، أي التعبير المُحكَم عن الظهور وعمّا تراه العين. كلمات هذا القول ليست من المعجم الديني بل البَصَري.
يغلّف زغيب لوحته بما يسترها بدل أن يظهرها. يغلّفها بكلّ طبقات ما يُرى على كثافة الذاكرة. وهو يتوصّل إلى إحكام التعبير عن تَرَدُّد أصداء الذاكرة في النفس حتّى لو ذهبت هذه الذاكرة إلى جاذبيّة الغرابة والفولكلور.
باتت مشكلة زغيب منذ أواسط الستّينيّات أنّ طريقته في الرسم لم تعد على نمط الحداثة. وبالطبع كان ذلك نزولاً عند التقتير حدّ البخل الذي كان بدوره ينسحب على الفن الرفيع إذا لم يكن يطال الغاية التي يرتجيها وقد تفارقت وظَرفَها الأوّل. ينبغي الاعتراف كذلك بكون زغيب يجذّر سوء الفهم بميله الهذياني إلى اعتبار العالَم الخارجي والمجتمع إن لم يكونا نتاجاً لفنّه، يكونان، أقلُّه، تطبيقاً لهذا النتاج.
ذلك بشرط تفصيلي هو أنّهما لا يستجيبان إلى مرتجياته المعاقة مثلما يريد أو يرغب. ثمّ أنّ مرتجاه الرئيسي كان أن يتمّ الاعتراف بأهمّيّة فنّه، والباقي يتبع.
ينبني نتاج زغيب الفنّي على تناقضات مختلف اللغات وأنماط التصوير التمثيلي وتراصفها. وهو يتحمّل وحده عنف تفسيراته. والأكثر إدهاشاً في الأمر أن يكون ذلك قد أمكن وجوده في إطار فنّ لبناني حريص على اللوحة والصورة وعلى وحدة الأسلوب على السواء، أي بما يشمل أنماط فهم مشترَك على مستوى الذوق السليم والتجهيز بالتفاصيل أكثر منها على مستوى اللوحة.
السؤال، والمسألة – ليس كلّ سؤال مسألة – اللذين يطرحهما زغيب في تاريخ الفنّ اللبناني، هو سؤال البراءة.
قد تكون البراءة عَرَضياً براءة الفنّ أيضاً، لكنّنا سنرى أنّ هذا الجانب من الفنّ هو الأقلّ براءة وجانب المحاكاة الذي ينطوي عليه لا يعيد طرح مسألة الهويّة بل مسألة التكرار، والاستنساخ، وتعب النظر، والمصطلح، والأثر المنتظر. هذه البراءة، كما نرى، ليس مسألة تصويريّة بل ذهنيّة. إنّها إمكانيّة المطالبة برؤية للفنّ وبتحقيقها وإمكانيّة وضعهما في الممارسة.
وينبغي ألّا ننسى أنّه في صغره، إذ أبدى اهتماماً بالرسم، جرى حَمْله على استعادة التخطيطات التقليديّة عارضين عليه في الوقت نفسه أن ينتسب إلى مدرسة إكليريكيّة وأن يتدرّب في مرسم داود قرم.
كانت محاولاته الأولى النسخ الذي لا علاقة له بالطريقة التي طال انتظارها. وهو سيقوم بالتدريج بتجذير مصدر وحيه باستخدام صوَر فوتوغرافيّة من الصحف. وفي سعيه الذي يظلّ توليفيّاً، مترابطاً ومُحكم البنيان، يأتي فعل النظر لديه فعلَ قراءة في المقام الأوّل. زخارف مطالع النصوص، نقوش ملوّنة لفرسان، ديكور سياحي إلى ما هنالك من صور تقع تحت النظر، كما في قولنا تقع تحت الطاولة.
إنّه لا يهتمّ بتاريخ الفنّ إلّا كمفردات لغة تقنيّة ممكنة. الانسان والرسّام غير قابلَين للفصل ويصدر واحدهما عن الآخر باندماج والتباس مختلَطَين، لكن كذلك بكونهما اضطرّا إلى الانفصال لديه بخلط الورق على نحو آخر.
إلّا أن براءته، بما تحمله له، تصبح مُعْدِية في نظر المُشاهد الذي تُلاحِقه حتّى فخّ بساطته المغرقة في طابعها المرح بحيث لا تحول دون أن يُعرَف منها أكثر ممّا تُظهِره.

خليل زغيب

خليل زغيب

خليل زغيب

خليل زغيب